مستجدّة العمران كثيرة السّاكن تموج بأهلها موجا فكان ذلك معينا على تموّج الهواء واضطرابه وتخفيف الأذى منه فلم يكن فيها كثير عفن ولا مرض وعند ما خفّ ساكنها ركد هواؤها المتعفّن بفساد مياهها فكثير العفن والمرض. فهذا وجهه لا غير. وقد رأينا عكس ذلك في بلاد وضعت ولم يراع فيها طيب الهواء وكانت أوّلا قليلة السّاكن فكانت أمراضها كثيرة فلمّا كثر سكّانها انتقل حالها عن ذلك وهذا مثل دار الملك بفاس لهذا العهد المسمّى بالبلد الجديد وكثير من ذلك في العالم فتفهّمه تجد ما قلته لك. وأمّا جلب المنافع والمرافق للبلد فيراعى فيه أمور منها الماء بأن يكون البلد على نهر أو بإزائها عيون عذبة ثرّة فإنّ وجود الماء قريبا من البلد يسهّل على السّاكن حاجة الماء وهي ضروريّة فيكون لهم في وجوده مرفقة عظيمة عامّة. وممّا يراعى من المرافق في المدن طيب المراعي لسائمتهم إذ صاحب كلّ قرار لا بدّ له من دواجن الحيوان للنّتاج والضّرع والرّكوب ولا بدّ لها من المرعى فإذا كان قريبا طيّبا كان ذلك أرفق بحالهم لما يعانون من المشقّة في بعده وممّا يراعى أيضا المزارع فإنّ الزّروع هي الأقوات. فإذا كانت مزارع البلد بالقرب منها كان ذلك أسهل في اتّخاذه وأقرب في تحصيله ومن ذلك الشّجر للحطب والبناء فإنّ الحطب ممّا تعمّ البلوى في اتّخاذه لوقود النّيران للاصطلاء والطّبخ. والخشب أيضا ضروريّ لسقفهم وكثير ممّا يستعمل فيه الخشب من ضروريّاتهم وقد يراعى أيضا قربها من البحر لتسهيل الحاجات القاصية من البلاد النّائية إلّا أنّ ذلك ليس بمثابة الأوّل وهذه كلّها متفاوتة بتفاوت الحاجات وما تدعو إليه ضرورة السّاكن. وقد يكون الواضع غافلا عن حسن الاختيار الطّبيعيّ أو إنّما يراعي ما هو أهمّ على نفسه وقومه، ولا يذكر حاجة غيرهم كما فعله العرب لأوّل الإسلام في المدن الّتي اختطّوها بالعراق وإفريقية فإنّهم لم يراعوا فيها إلّا الأهمّ عندهم من مراعي الإبل وما يصلح لها من الشّجر والماء الملح ولم يراعوا الماء ولا المزارع ولا الحطب ولا مراعي السّائمة من ذوات الظّلف ولا غير ذلك