للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الجوار وإن كانوا أهل أنساب وبيوتات [١] وذلك أنّ النّاس بشر متماثلون وإنّما تفاضلوا وتميّزوا بالخلق واكتساب الفضائل واجتناب الرّذائل. فمن استحكمت فيه صبغة الرّذيلة بأيّ وجه كان، وفسد خلق الخير فيه، لم ينفعه زكاء نسبه ولا طيب منبته. ولهذا تجد كثيرا من أعقاب البيوت وذوي الأحساب والأصالة وأهل الدّول منطرحين في الغمار [٢] منتحلين للحرف الدّنيئة في معاشهم بما فسد من أخلاقهم وما تلوّنوا به من صبغة الشّرّ والسّفسفة وإذا كثر ذلك في المدينة أو الأمّة تأذّن الله بخرابها وانقراضها وهو معنى قوله تعالى: «وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً ١٧: ١٦» [٣] . ووجهه حينئذ إنّ مكاسبهم حينئذ لا تفي بحاجاتهم لكثرة العوائد ومطالبة النّفس بها فلا تستقيم أحوالهم. وإذا فسدت أحوال الأشخاص واحدا واحدا اختلّ نظام المدينة وخربت وهذا معنى ما يقوله بعض أهل الخواص [٤] أنّ المدينة إذا كثر فيها غرس النّارنج تأذّنت بالخراب حتّى أنّ كثيرا من العامّة يتحامى غرس النّارنج بالدّور تطيرا به. وليس المراد ذلك ولا أنّه خاصّيّة [٥] في النّارنج وإنّما معناه أنّ البساتين وإجراء المياه هو من توابع الحضارة. ثمّ إنّ النّارنج واللّيّة [٦] والسّرو وأمثال ذلك ممّا لا طعم فيه ولا منفعة هو من غاية [٧] الحضارة إذ لا يقصد بها في البساتين إلّا أشكالها فقط ولا تغرس إلّا بعد التّفنّن في مذاهب التّرف. وهذا هو الطّور الّذي يخشى معه هلاك المصر وخرابه كما قلناه. ولقد قيل مثل ذلك في الدّفلى وهو من هذا الباب إذ الدّفلى لا يقصد بها إلّا تلوّن البساتين بنورها ما بين أحمر وأبيض وهو من مذاهب التّرف. ومن مفاسد الحضارة الانهماك في الشّهوات والاسترسال


[١] وفي النسخة الباريسية: وأبواب.
[٢] جماعة من الناس.
[٣] سورة الإسراء الآية ١٦.
[٤] وفي نسخة أخرى: أهل الحواضر.
[٥] وفي نسخة أخرى: خاصة. وفي النسخة الباريسية: طيرة.
[٦] وفي نسخة أخرى: اللّيم.
[٧] وفي نسخة أخرى: غايات.

<<  <  ج: ص:  >  >>