للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فيها لكثرة التّرف فيقع التّفنّن في شهوات البطن من المآكل والملاذّ والمشارب وطيبها. ويتبع ذلك التّفنّن في شهوات الفرج بأنواع المناكح من الزّنا واللّواط، فيفضي ذلك إلى فساد النّوع. إمّا بواسطة اختلاط الأنساب كما في الزّنا، فيجهل كلّ واحد ابنه، إذ هو لغير رشدة، لأنّ المياه مختلطة في الأرحام، فتفقد الشّفقة الطّبيعيّة على البنين والقيام عليهم فيهلكون، ويؤدّي ذلك إلى انقطاع النّوع، أو يكون فساد النّوع بغير واسطة، كما في اللّواط المؤدّي إلى عدم النسل رأسا وهو أشدّ في فساد النّوع. والزّنا يؤدّي إلى عدم ما يوجد منه. ولذلك كان مذهب مالك رحمه الله في اللّواط أظهر من مذهب غيره، ودلّ على أنّه أبصر بمقاصد الشّريعة واعتبارها للمصالح.

فافهم ذلك واعتبر به أنّ غاية العمران هي الحضارة والتّرف وأنّه إذا بلغ غايته انقلب إلى الفساد وأخذ في الهرم كالأعمار الطّبيعيّة للحيوانات. بل نقول إنّ الأخلاق الحاصلة من الحضارة والتّرف هي عين الفساد لأنّ الإنسان إنّما هو إنسان باقتداره على جلب منافعه ودفع مضارّه واستقامة خلقه للسّعي في ذلك. والحضريّ لا يقدر على مباشرته حاجاته إمّا عجزا لما حصل له من الدّعة أو ترفّعا لما حصل من المربى في النّعيم والتّرف وكلا الأمرين ذميم. وكذلك لا يقدر على دفع المضارّ واستقامة خلقه للسّعي في ذلك. والحضريّ بما قد فقد من خلق الإنسان بالتّرف والنّعيم [١] في قهر التّأديب والتعلم فهو بذلك عيال على الحامية الّتي تدافع عنه. ثمّ هو فاسد أيضا غالبا بما فسدت [٢] منه العوائد وطاعتها وما تلوّنت به النّفس من مكانتها [٣] كما قرّرناه إلّا في الأقلّ النّادر. وإذا فسد الإنسان في قدرته على أخلاقه ودينه فقد فسدت إنسانيّته وصار مسخا على الحقيقة. وبهذا الاعتبار كان الّذين يتقرّبون من جند السّلطان إلى البداوة والخشونة أنفع من الّذين


[١] وفي نسخة أخرى: بما قد فقد من خلق البأس بالترف والمربى.
[٢] وفي نسخة أخرى: أفسدت.
[٣] وفي نسخة أخرى: وملكاتها.

<<  <  ج: ص:  >  >>