للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كتب خامس عشر صفر المبارك من سنة ستّ وثمانين وسبعمائة حسب المرسوم الشريف. الحمد للَّه وصلواته على سيّدنا محمّد وآله وصحبه وسلّم.

ثم هلك بعض المدرّسين بمدرسة القمحية [١] بمصر، من وقف صلاح الدّين بن أيّوب، فولّاني تدريسها مكانه [٢] ، وبينا أنا في ذلك، إذ سخط السلطان قاضي المالكية [٣] في دولته، لبعض النّزعات فعزله، وهو رابع أربعة بعدد المذاهب، يدعى كلّ منهم قاضي القضاة، تمييزا عن الحكّام بالنّيابة عنهم، لاتّساع خطّة هذا المعمور، وكثرة عوالمه، وما يرتفع من الخصومات في جوانبه، وكبير جماعتهم قاضي الشّافعية، لعموم ولايته في الأعمال شرقا وغربا، وبالصّعيد [٤] والفيوم [٥] ، واستقلاله بالنّظر في أموال اليتامى والوصايا، ولقد يقال بأنّ مباشرة السلطان قديما بالولاية إنّما كانت تكون له.

فلما عزل هذا القاضي المالكيّ سنة ست وثمانين وسبعمائة اختصّني السلطان بهذه الولاية تأهيلا لمكاني وتنويها بذكري وشافهته بالتفادي من ذلك، فأبى إلّا إمضاءه وخلع عليّ بإيوانه وبعث من كبار الخاصّة من أقعدني بمجلس الحكم بالمدرسة الصالحية بين القصرين، فقمت بما دفع إليّ من ذلك المقام المحمود ووفّيت جهدي بما آمنني عليه من أحكام الله، لا تأخذني في الله لومة، ولا يرغبني عنه جاه ولا سطوة مسوّيا بين الخصمين، آخذا بحقّ الضعيف من الحكمين، معرضا عن الشفاعات والوسائل من الجانبين جانحا إلى التثبّت في سماع البينات، والنظر في عدالة المنتصبين لتحمّل


[١] كان موقع القمحية بجوار العتيق (جامع عمرو) بمصر، وكان موضعها يعرف بدار الغزل، وهو قيسارية كان يباع فيها الغزل، فهدمها صلاح الدين، وأنشأ موضعها مدرسة للفقهاء المالكية، ورتب فيها مدرسين، وجعل لها أوقافا كانت ضيعة بالفيوم تغل قمحا كان مدرسوها يتقاسمونه، ولذلك صارت لا تعرف الا بالمدرسة القمحية. خطط المقريزي ٢/ ٣٦٤ بولاق.
[٢] في السلوك في حوادث سنة ٧٨٦:
«وفي ٢٥ محرم، درّس شيخنا أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون، بالمدرسة القمحية بمصر، عوضا عن علم الدين سلمان البساطي بعد موته، وحضر معه الأمير الطنبغا الجوباني، والأمير يونس الدوادار، وقضاة القضاة والأعيان» .
[٣] هو جمال الدين عبد الرحمن بن سليمان بن خير المالكي (٧٢١- ٧٩١) .
[٤] كان القدماء يعتبرون مبدأ الصعيد الشمالي من قرب القاهرة، ويمتد على ضفتي الوادي جنوبا حتى يصل الى أسوان الّذي كان عندهم نهاية الصعيد الجنوبية، وفيما بين أسوان، واخميم، كان الصعيد الأعلى، ومن اخميم الى مدينة البهنسا الواقعة على الضفة الغربية لوادي النيل، كان يسمى الصعيد الأوسط، أما الصعيد الأدنى فكانت بدايته البهنسا، ونهايته في الشمال، قرب الفسطاط. ياقوت معجم البلدان.
[٥] تقع الفيوم المدينة المعروفة، في الجنوب الشرقي لبحيرة قارون، في الغرب من وادي النيل.

<<  <  ج: ص:  >  >>