للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الّذي فيه صاحبه. فإن كان الجاه متّسعا كان الكسب النّاشئ عنه كذلك وإن كان ضيّقا قليلا فمثله. وفاقد الجاه وإن كان له مال فلا يكون يساره إلّا بمقدار عمله أو ماله ونسبة سعيه ذاهبا وآئبا في تنميته كأكثر التّجّار وأهل الفلاحة في الغالب وأهل الصّنائع كذلك إذا فقدوا الجاه واقتصروا على فوائد صنائعهم فإنّهم يصيرون إلى الفقر والخصاصة في الأكثر ولا تسرع إليهم ثروة وإنّما يرمّقون العيش ترميقا ويدافعون [١] ضرورة الفقر مدافعة. وإذا تقرّر ذلك وأنّ الجاه متفرّع [٢] وأنّ السّعادة والخير مقترنان بحصوله علمت أنّ بذله وإفادته من أعظم النّعم وأجلّها وأنّ باذله من أجلّ المنعمين وإنّما يبذله لمن تحت يديه فيكون بذله بيد عالية وعزّة فيحتاج طالبه ومبتغيه إلى خضوع وتملّق كما يسأل أهل العزّ والملوك وإلّا فيتعذّر حصوله. فلذلك قلنا إنّ الخضوع والتّملق من أسباب حصول هذا الجاه المحصّل للسّعادة والكسب وإنّ أكثر أهل الثّروة والسّعادة بهذا التّملّق ولهذا نجد الكثير ممّن يتخلّق بالتّرفّع والشّمم لا يحصل لهم غرض الجاه فيقتصرون في التّكسّب على أعمالهم ويصيرون إلى الفقر والخصاصة. واعلم أنّ هذا الكبر والتّرفّع من الأخلاق المذمومة إنّما يحصل من توهّم الكمال وأنّ النّاس يحتاجون إلى بضاعته من علم أو صناعة كالعالم المتبحّر في علمه والكاتب المجيد في كتابته أو الشّاعر البليغ في شعره وكلّ محسن في صناعته يتوهّم أنّ النّاس محتاجون لما بيده فيحدث له ترفّع عليهم بذلك وكذا يتوهّم أهل الأنساب ممّن كان في آبائه ملك أو عالم مشهور أو كامل في طور يعبّرون [٣] به بما رأوه أو سمعوه من رجال آبائهم في المدينة ويتوهّمون أنّهم استحقّوا مثل ذلك بقرابتهم إليهم ووراثتهم عنهم. فهم متمسّكون في الحاضر بالأمر المعدوم وكذلك أهل الحيلة والبصر والتّجارب بالأمور [٤] قد يتوهّم بعضهم كمالا في نفسه بذلك واحتياجا إليه. وتجد هؤلاء


[١] وفي نسخة أخرى: يدفعون.
[٢] وفي النسخة الباريسية: متوزع.
[٣] وفي النسخة الباريسية: يغترون. وفي نسخة أخرى يعثرون
[٤] وفي النسخة الباريسية: أهل الحنكة والتجارب والبصر بالأمور.

<<  <  ج: ص:  >  >>