للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الأصناف كلّهم مترفّعين لا يخضعون لصاحب الجاه ولا يتملّقون لمن هو أعلى منهم ويستصغرون من سواهم لاعتقادهم الفضل على النّاس فيستنكف أحدهم عن الخضوع ولو كان للملك ويعدّه مذلّة وهوانا وسفها. ويحاسب النّاس في معاملتهم إيّاه بمقدار ما يتوهّم في نفسه ويحقد على من قصّر له في شيء ممّا يتوهّمه من ذلك. وربّما يدخل على نفسه الهموم والأحزان من تقصيرهم فيه ويستمرّ في عناء عظيم من إيجاب الحقّ لنفسه أو إباية النّاس له من ذلك. ويحصل له المقت من النّاس لما في طباع البشر من التّألّه، وقلّ أن يسلّم أحد منهم لأحد في الكمال والتّرفّع عليه إلّا أن يكون ذلك بنوع من القهر والغلبة والاستطالة. وهذا كلّه في ضمن الجاه. فإذا فقد صاحب هذا الخلق الجاه وهو مفقود له كما تبيّن لك مقته النّاس بهذا التّرفّع ولم يحصل له حظّ من إحسانهم وفقد الجاه لذلك من أهل الطّبقة الّتي هي أعلى منه لأجل المقت وما يحصل له بذلك من القعود عن تعاهدهم وغشيان [١] منازلهم ففسد معاشه وبقي في خصاصة وفقر أو فوق ذلك بقليل. وأمّا الثّروة فلا تحصل له أصلا. ومن هذا اشتهر بين النّاس أنّ الكامل في المعرفة محروم من الحظّ وأنّه قد حوسب بما رزق من المعرفة واقتطع له ذلك من الحظّ وهذا معناه. ومن خلق لشيء يسّر له. والله المقدّر لا ربّ سواه. ولقد يقع في الدّول أضراب في المراتب من أهل [٢] الخلق ويرتفع فيها كثير من السّلفة وينزل كثير من العلية بسبب ذلك وذلك أنّ الدّول إذا بلغت نهايتها [٣] من التّغلّب والاستيلاء انفرد منها منبت الملك بملكهم وسلطانهم ويئس من سواهم من ذلك وإنّما صاروا في مراتب دون مرتبة الملك وتحت يد السّلطان وكأنّهم خول له. فإذا استمرّت الدّولة وشمخ الملك تساوى حينئذ في المنزلة عند السّلطان كلّ من انتمى إلى خدمته وتقرّب إليه بنصيحة واصطنعه السّلطان لغنائه في كثير من مهمّاته.


[١] غشي المكان: أتاه.
[٢] وفي النسخة الباريسية: من أجل.
[٣] وفي النسخة الباريسية: غايتها.

<<  <  ج: ص:  >  >>