للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المشرق أهل المغرب هو ما يحصل في النّفس من آثار الحضارة من العقل المزيد كما تقدّم في الصّنائع، ونزيده الآن شرحا وتحقيقا. وذلك أنّ الحضر لهم آداب في أحوالهم في المعاش والمسكن والبناء وأمور الدّين والدّنيا وكذا سائر أعمالهم وعاداتهم ومعاملاتهم وجميع تصرّفاتهم. فلهم في ذلك كلّه آداب يوقف عندها في جميع ما يتناولونه ويتلبّسون [١] به من أخذ وترك حتّى كأنّها حدود لا تتعدّى.

وهي مع ذلك صنائع يتلقّاها الآخر عن الأوّل منهم. ولا شكّ أنّ كلّ صناعة مرتّبة يرجع منها إلى النّفس أثر يكسبها عقلا جديدا تستعدّ به لقبول صناعة أخرى ويتهيّأ بها العقل بسرعة الإدراك للمعارف. ولقد بلغنا في تعليم الصّنائع عن أهل مصر غايات لا تدرك مثل أنّهم يعلّمون الحمر الإنسيّة والحيوانات العجم من الماشي والطّائر مفردات من الكلام والأفعال يستغرب ندورها ويعجز أهل المغرب عن فهمها فضلا عن تعليمها وحسن الملكات في التّعليم والصّنائع وسائر الأحوال العاديّة يزيد الإنسان ذكاء في عقله وإضاءة في فكره بكثرة الملكات الحاصلة للنّفس. إذ قدّمنا أنّ النّفس إنّما تنشأ بالإدراكات. وما يرجع إليها من الملكات فيزدادون بذلك كيسا لما يرجع إلى النّفس من الآثار العلميّة فيظنّه العاميّ تفاوتا في الحقيقة الإنسانيّة وليس كذلك. ألا ترى إلى أهل الحضر مع أهل البدو كيف تجد الحضريّ متحلّيا بالذّكاء ممتلئا من الكيس حتّى إنّ البدويّ ليظنّه أنّه قد فاته في حقيقة إنسانيّته وعقله وليس كذلك. وما ذاك إلّا لإجادته في ملكات الصّنائع والآداب في العوائد والأحوال الحضريّة ما لا يعرفه البدويّ. فلمّا امتلأ الحضريّ من الصّنائع وملكاتها وحسن تعليمها ظنّ كلّ من قصّر عن تلك الملكات أنّها لكمال في عقله وأنّ نفوس أهل البدو قاصرة بفطرتها وجبلّتها عن فطرته وليس كذلك. فإنّا نجد من أهل البدو من هو في أعلى رتبة من الفهم والكمال في عقله وفطرته إنّما الّذي ظهر على أهل الحضر من ذلك هو رونق


[١] وفي نسخة أخرى يتكسبون.

<<  <  ج: ص:  >  >>