للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وسفه رأيه في ذلك. واعلم أنّ الوجود عند كلّ مدرك في بادئ رأيه منحصر في مداركه لا يعدوها والأمر في نفسه بخلاف ذلك والحقّ من ورائه. ألا ترى الأصمّ كيف ينحصر الوجود عنده في المحسوسات الأربع والمعقولات ويسقط من الوجود عنده صنف المسموعات. وكذلك الأعمى أيضا يسقط عنده صنف المرئيّات ولولا ما يردّهم إلى ذلك تقليد الآباء والمشيخة من أهل عصرهم والكافّة لما أقرّوا به لكنّهم يتّبعون الكافّة في إثبات هذه الأصناف لا بمقتضى فطرتهم وطبيعة إدراكهم ولو سئل الحيوان الأعجم ونطق لوجدناه منكرا للمعقولات وساقطة لديه بالكلّيّة فإذا علمت هذا فلعلّ هناك ضربا من الإدراك غير مدركاتنا لأنّ إدراكاتنا مخلوقة محدثة وخلق الله أكبر من خلق النّاس. والحصر مجهول والوجود أوسع نطاقا من ذلك والله من ورائهم محيط. فاتّهم إدراكك ومدركاتك في الحصر واتبع ما أمرك الشّارع به من اعتقادك وعملك فهو أحرص على سعادتك وأعلم بما ينفعك لأنّه من طور فوق إدراكك ومن نطاق أوسع من نطاق عقلك وليس ذلك بقادح في العقل ومداركه بل العقل ميزان صحيح فأحكامه يقينيّة لا كذب فيها.

غير أنّك لا تطمع أن تزن به أمور التّوحيد والآخرة وحقيقة النّبوة وحقائق الصّفات الإلهيّة وكلّ ما وراء طوره فإنّ ذلك طمع في محال. ومثال ذلك مثال رجل رأى الميزان الّذي يوزن به الذّهب فطمع أن يزن به الجبال وهذا لا يدرك. على أنّ الميزان في أحكامه غير صادق لكنّ العقل قد يقف عنده ولا يتعدّى طوره حتّى يكون له أن يحيط باللَّه وبصفاته فإنّه ذرّة من ذرّات الوجود الحاصل منه. وتفطّن في هذا الغلط ومن يقدّم العقل على السّمع في أمثال هذه القضايا وقصور فهمه واضمحلال رأيه فقد تبيّن لك الحقّ من ذلك وإذ تبيّن ذلك فلعلّ الأسباب إذا تجاوزت في الارتقاء نطاق إدراكنا ووجودنا خرجت عن أن تكون مدركة فيضلّ العقل في بيداء الأوهام ويحار وينقطع. فإذا التّوحيد هو العجز عن إدراك الأسباب وكيفيّات تأثيرها وتفويض ذلك إلى خالقها المحيط بها

<<  <  ج: ص:  >  >>