إذ لا فاعل غيره وكلّها ترتقي إليه وترجع إلى قدرته وعلمنا به إنّما هو من حيث صدورنا عنه لا غير وهذا هو معنى ما نقل عن بعض الصّدّيقين:«العجز عن الإدراك إدراك» . ثمّ إنّ المعتبر في هذا التّوحيد ليس هو الإيمان فقط الّذي هو تصديق حكميّ فإنّ ذلك من حديث النّفس وإنّما الكمال فيه حصول صفة منه تتكيّف بها النّفس كما أنّ المطلوب من الأعمال والعبادات أيضا حصول ملكة الطّاعة والانقياد وتفريغ القلب عن شواغل ما سوى المعبود حتّى ينقلب المريد السّالك ربّانيّا. والفرق بين الحال والعلم في العقائد فرق ما بين القول والاتّصاف. وشرحه أنّ كثيرا من النّاس يعلم أنّ رحمة اليتيم والمسكين قربة إلى الله تعالى مندوب إليها ويقول بذلك ويعترف به ويذكر مأخذه من الشّريعة وهو لو رأى يتيما أو مسكينا من أبناء المستضعفين لفرّ عنه واستنكف أن يباشره فضلا عن التّمسّح عليه للرّحمة وما بعد ذلك من مقامات العطف والحنوّ والصّدقة. فهذا إنّما حصل له من رحمة اليتيم مقام العلم ولم يحصل له مقام الحال والاتّصاف.
ومن النّاس من يحصل له مع مقام العلم والاعتراف بأنّ رحمة المسكين قربة إلى الله تعالى مقام آخر أعلى من الأوّل وهو الاتّصاف بالرّحمة وحصول ملكتها. فمتى رأى يتيما أو مسكينا بادر إليه ومسح عليه والتمس الثّواب في الشّفقة عليه لا يكاد يصبر عن ذلك ولو دفع عنه. ثمّ يتصدّق عليه بما حضره من ذات يده وكذا علمك بالتّوحيد مع اتّصافك به والعلم حاصل عن الاتّصاف ضرورة وهو أوثق مبنى من العلم الحاصل قبل الاتّصاف. وليس الاتّصاف بحاصل عن مجرّد العلم حتّى يقع العمل ويتكرّر مرارا غير منحصرة فترسخ الملكة ويحصل الاتّصاف والتّحقيق ويجيء العلم الثّاني النّافع في الآخرة. فإنّ العلم الأوّل المجرّد عن الاتّصاف قليل الجدوى والنّفع وهذا علم أكثر النّظّار والمطلوب إنّما هو العلم الحاليّ النّاشئ عن العادة. واعلم أنّ الكمال عند الشّارع في كلّ ما كلف به إنّما هو في هذا فما طلب اعتقاده فالكمال فيه في العلم الثّاني الحاصل عن الاتّصاف وما طلب عمله من