ويرى شهود الجنازة ويسمع كلامهم وخفق نعالهم في الانصراف عنه، ويسمع ما يذكرونه به من التوحيد أو من تقرير الشهادتين، وغير ذلك. وفي الصّحيح أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقف على قليب بدر [١] ، وفيه قتلى المشركين من قريش، وناداهم بأسمائهم، فقال عمر: يا رسول الله! أتكلّم هؤلاء الجيف؟
فقال صلّى الله عليه وسلّم: والّذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع منهم لما أقول. ثمّ في البعثة يوم القيامة يعاينون بأسمائهم وأبصارهم- كما كانوا يعاينون في الحياة- من نعيم الجنّة على مراتبه وعذاب النار على مراتبه، ويرون الملائكة ويرون ربّهم، كما ورد في الصحيح: إنّكم ترون ربّكم يوم القيامة، كالقمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته. وهذه المدارك لم تكن لهم في الحياة الدّنيا وهي حسيّة مثلها، وتقع في الجوارح بالعلم الضّروريّ الّذي يخلقه الله كما قلناه. وسرّ هذا أن تعلم أنّ النّفس الإنسانيّة هي تنشأ بالبدن وبمداركه، فإذا فارقت البدن بنوم أو بموت أو صار النّبيّ حالة الوحي من المدارك البشريّة إلى المدارك الملكيّة، فقد استصبحت ما كان معها من المدارك البشريّة مجرّدة عن الجوارح، فيدرك بها في ذلك الطور أيّ إدراك شاءت منها، أرفع من إدراكها، وهي في الجسد. قاله الغزاليّ رحمه الله، وزاد على ذلك أنّ النفس الإنسانيّة صورة تبقى لها، ب عد المفارقة فيها العينان والأذنان وسائر الجوارح المدركة أمثالا لها، كان في البدن وصورا.
وأنا أقول: إنّما يشير بذلك إلى الملكات الحاصلة من تصريف هذه الجوارح في بدنها زيادة على الإدراك. فإذا تفطّنت لهذا كلّه علمت أنّ هذه المدارك موجودة في الأطوار الأربعة، لكن ليس على ما كانت في الحياة الدّنيا، وإنّما هي تختلف بالقوّة والضّعف بحسب ما يعرض لها من الأحوال. ويشير المتكلّمون إلى ذلك إشارة مجملة بأنّ الله يخلق فيها علما ضروريّا بتلك المدارك، أيّ
[١] كان ذلك أثر انتهاء وقعة بدر الكبرى التي أظهر الله بها دين الإسلام على المشركين. انظر ابن خلدون ط دار الكتاب اللبناني- بيروت م ٢ ص ٧٤٤- ٧٤٦.