للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهذا الإدراك النوميّ أوضح شاهد على ما يقع بعده من المدارك الحسيّة في الأطوار.

وأمّا الطور الثالث، وهو طور الأنبياء، فالمدارك الحسيّة فيها مجهولة الكيفيّة عند وجدانيّته عندهم بأوضح من اليقين. فيرى النّبيّ الله والملائكة، ويسمع كلام الله منه أو من الملائكة، ويرى الجنّة والنار، والعرش والكرسيّ، ويخترق السّماوات السبع في إسرائه ويركب البراق فيها، ويلقى النّبيّين لك، ويصلّي بهم، ويدرك أنواع المدارك الحسيّة، كما يدرك في طوره الجسمانيّ والنوميّ، بعلم ضروريّ يخلقه الله له، لا بالإدراك العاديّ للبشر في الجوارح، ولا يلتفت في ذلك إلى ما يقوله ابن سينا من تنزيله أمر النّبوّة على أمر النوم في دفع الخيال صورة إلى الحسّ المشترك. فإنّ الكلام عليهم هنا أشدّ من الكلام في النوم، لأنّ هذا التّنزيل طبيعة واحدة كما قرّرناه، فيكون على هذا حقيقة الوحي والرّؤيا من النّبيّ واحدة في يقينها وحقيقتها، وليست كذلك على ما علمت من رؤيا النّبي صلّى الله عليه وسلّم قبل الوحي ستة أشهر وأنّها كانت بمدّة الوحي ومقدّمته، ويشعر ذلك بأنّه رؤية [١] في الحقيقة. وكذلك حال الوحي في نفسه فقد كان يصعب عليه ويقاسي منه شدّة كما هي في الصّحيح، حتّى كان القرآن يتنزّل عليه آيات مقطّعات. وبعد ذلك نزل عليه (براءة) [٢] في غزوة (تبوك) جملة واحدة، وهو يسير على ناقته. فلو كان ذلك من تنزّل الفكر إلى الخيال فقط، ومن الخيال إلى الحسّ المشترك، لم يكن بين هذه الحالات فرق. وأمّا الطور الرابع، وهو طور الأموات في برزخهم الّذي أوّله القبر. وهم مجرّدون عن البدن، أو في بعثتهم عند ما يرجعون إلى الأجسام، فمداركهم الحسيّة موجودة، فيرى الميت في قبره المكان يسائلانه، ويرى مقعده من الجنّة أو النار بعيني رأسه،


[١] كذا. وفي نسخة: دونه.
[٢] هي السورة التاسعة من القرآن الكريم. وهي سورة (التوبة) .

<<  <  ج: ص:  >  >>