للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كما نبّهنا الله عليه، في كثير من آيات البعثة. ومن أوضح الدلالة على صحّتها أنّ أشخاص الإنسان لو لم يكن لهم وجود آخر بعد الموت غير هذه المشاهد يتلقّى فيه أحوالا تليق به، لكان إيجاده الأوّل عبثا. إذ الموت إذا كان عدما كان مال الشخص إلى العدم، فلا يكون لوجوده الأوّل حكمة. والعبث على الحكيم محال.

وإذا تقرّرت هذه الأحوال الأربعة، فلنأخذ في بيان مدارك الإنسان فيها كيف تختلف اختلافا بيّنا يكشف لك غور المتشابه. فأمّا مداركه في الطور الأوّل فواضحة جليّة. قال الله تعالى: «وَالله أَخْرَجَكُمْ من بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ ١٦: ٧٨ [١] » . فبهذه المدارك يستولي على ملكات المعارف ويستكمل حقيقة إنسانيّة ويوفي حقّ العبادة المفضية به إلى النّجاة.

وأمّا مداركه في الطور الثاني، وهو طور النوم، فهي المدارك الّتي في الحسّ الظاهر بعينها. لكن ليست في الجوارح كما هي في اليقظة. لكنّ الرأي يتيقّن كلّ شيء أدركه في نومه لا يشكّ فيه ولا يرتاب، مع خلوّ الجوارح عن الاستعمال العاديّ لها. والناس في حقيقة هذه الحال فريقان: الحكماء، ويزعمون أنّ الصور الخياليّة يدفعها الخيال بحركة الفكر إلى الحسّ المشترك الّذي هو الفصل المشترك بين الحسّ الظاهر والحسّ الباطن، فتصوّر محسوسه بالظاهر في الحواسّ كلّها. ويشكّل عليهم هذا بأنّ المرائي الصادقة الّتي هي من الله تعالى أو من الملك أثبت وأرسخ في الإدراك من المرائي الخياليّة الشيطانيّة، مع أنّ الخيال فيها على ما قرّروه واحد.

الفريق الثاني: المتكلّمون، أجملوا فيها القول، وقالوا: هو إدراك يخلقه الله في الحاسّة فيقع كما يقع في اليقظة، وهذا أليق، وإن كنّا لا نتصوّر كيفيّته.


[١] آية ٧٨ من سورة النحل.

<<  <  ج: ص:  >  >>