الرّبّانيّة والعلوم اللّدنّيّة والفتح الإلهيّ وتقرب ذاته في تحقيق حقيقتها من الأفق الأعلى أفق الملائكة. وهذا الكشف كثيرا ما يعرض لأهل المجاهدة فيدركون من حقائق الوجود ما لا يدرك سواهم وكذلك يدركون كثيرا من الواقعات قبل وقوعها ويتصرّفون بهممهم وقوى نفوسهم في الموجودات السّفليّة وتصير طوع إرادتهم.
فالعظماء منهم لا يعتبرون هذا الكشف ولا يتصرّفون ولا يخبرون عن حقيقة شيء لم يؤمروا بالتّكلّم فيه بل يعدّون ما يقع لهم من ذلك محنة ويتعوّذون منه إذا هاجمهم. وقد كان الصّحابة رضي الله عنهم على مثل هذه المجاهدة وكان حظّهم من هذه الكرامات أوفر الحظوظ لكنّهم لم يقع لهم بها عناية. وفي فضائل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم كثير منها. وتبعهم في ذلك أهل الطّريقة ممّن اشتملت رسالة القشيريّ على ذكرهم ومن تبع طريقتهم من بعدهم.
ثمّ إنّ قوما من المتأخّرين انصرفت عنايتهم إلى كشف الحجاب والكلام في المدارك الّتي وراءه واختلفت طرق الرّياضة عنهم في ذلك باختلاف تعليمهم في إماتة القوى الحسّيّة وتغذية الرّوح العاقل بالذّكر حتّى يحصل للنّفس إدراكها الّذي لها من ذاتها بتمام نشوتها وتغذيتها فإذا حصل ذلك زعموا أنّ الوجود قد انحصر في مداركها حينئذ وأنّهم كشفوا ذوات الوجود وتصوّروا حقائقها كلّها من العرش إلى الطّشّ. هكذا قال الغزاليّ رحمه الله في كتاب الإحياء بعد أن ذكر صورة الرّياضة. ثمّ إنّ هذا الكشف لا يكون صحيحا كاملا عندهم إلّا إذا كان ناشئا عن الاستقامة لأنّ الكشف قد يحصل لصاحب الجوع والخلوة وإن لم يكن هناك استقامة كالسّحرة وغيرهم من المرتاضين. وليس مرادنا إلّا الكشف النّاشئ عن الاستقامة ومثاله أنّ المرآة الصّقيلة إذا كانت محدّبة أو مقعّرة وحوذي بها جهة المرئي فإنّه يتشكّل فيه معوجّا على غير صورته. وإن كانت مسطّحة تشكّل فيها المرئيّ صحيحا. فالاستقامة للنّفس كالانبساط للمرآة فيما ينطبع فيها من الأحوال. ولمّا عنّي المتأخّرون بهذا النّوع من الكشف تكلّموا في حقائق