توابع الكلام في القضايا ببعض الوجوه ثمّ تكلّموا في القياس من حيث إنتاجه للمطالب على العموم لا بحسب مادّة وحدّقوا النّظر فيه بحسب المادّة وهي الكتب الخمسة: البرهان والجدل والخطابة والشّعر والسّفسطة. وربّما يلمّ بعضهم باليسير منها إلماما وأغفلوها كأن لم تكن هي المهمّ المعتمد في الفنّ. ثمّ تكلّموا فيما وضعوه من ذلك كلاما مستبحرا ونظروا فيه من حيث إنّه فنّ برأسه لا من حيث إنّه آلة للعلوم فطال الكلام فيه واتّسع. وأوّل من فعل ذلك الإمام فخر الدّين بن الخطيب ومن بعده أفضل الدّين الخونجيّ وعلى كتبه معتمد المشارقة لهذا العهد. وله في هذه الصّناعة كتاب كشف الأسرار وهو طويل واختصر فيها مختصر الموجز وهو حسن في التّعليم ثمّ مختصر الجمل في قدر أربعة أوراق أخذ بمجامع الفنّ وأصوله فتداوله المتعلّمون لهذا العهد فينتفعون به. وهجرت كتب المتقدّمين وطرقهم كأن لم تكن وهي ممتلئة من ثمرة المنطق وفائدته كما قلناه.
والله الهادي للصّواب.
اعلم أنّ هذا الفنّ قد اشتدّ النكير على انتحاله من متقدّمي السلف والمتكلّمين، وبالغوا في الطعن عليه والتّحذير منه، وحظّروا تعلّمه وتعليمه.
وجاء المتأخّرون من بعدهم من لدن الغزاليّ والإمام ابن الخطيب، فسامحوا في ذلك بعض الشّيء. وأكبّ النّاس على انتحاله من يومئذ إلّا قليلا، يجنحون فيه إلى رأي المتقدّمين، فينفرون عنه ويبالغون في إنكاره. فلنبيّن لك نكتة القبول والردّ في ذلك، لتعلم مقاصد العلماء في مذاهبهم، وذلك أنّ المتكلّمين لمّا وضعوا علم الكلام لنصر العقائد الإيمانيّة بالحجج العقليّة، كانت طريقتهم في ذلك بأدلّة خاصّة وذكروها في كتبهم كالدليل على حدث العالم بإثبات الأعراض وحدوثها، وامتناع خلوّ الأجسام عنها، وما لا يخلو عن الحوادث حادث.
وكإثبات التوحيد بدليل التمانع، وإثبات الصفات القديمة بالجوامع الأربعة إلحاقا للغائب بالشاهد، وغير ذلك من أدلّتهم المذكورة في كتبهم. ثمّ مرّروا تلك