للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من ذلك فدليله شهوده لا تلك البراهين فأين اليقين الّذي يجدونه فيها؟ وربّما يكون تصرّف الذّهن أيضا في المعقولات الأوّل المطابقة للشّخصيّات بالصّور الخياليّة لا في المعقولات الثّواني الّتي تجريدها في الرّتبة الثانية فيكون الحكم حينئذ يقينيّا بمثابة المحسوسات إذ المعقولات الأول أقرب إلى مطابقة الخارج لكمال. الانطباق فيها فنسلّم لهم حينئذ دعاويهم في ذلك. إلّا أنّه ينبغي لنا الإعراض عن النّظر فيها إذ هو من ترك المسلم لما لا يعنيه فإنّ مسائل الطّبيعيّات لا تهمّنا في ديننا ولا معاشنا فوجب علينا تركها. وأمّا ما كان منها في الموجودات الّتي وراء الحسّ وهي الرّوحانيات ويسمّونه العلم الإلهيّ وعلم ما بعد الطّبيعة فإنّ ذواتها مجهولة رأسا ولا يمكن التّوصّل إليها ولا البرهان عليها لأنّ تجريد المعقولات من الموجودات الخارجيّة الشّخصيّة إنّما هو ممكن فيما هو مدرك لنا.

ونحن لا ندرك الذّوات الرّوحانيّة حتّى نجرّد منها ماهيّات أخرى بحجاب الحسّ بيننا وبينها فلا يتأتّى لنا برهان عليها ولا مدرك لنا في إثبات وجودها على الجملة إلّا ما نجده بين جنبينا من أمر النّفس الإنسانيّة وأحوال مداركها وخصوصا في الرّؤيا الّتي هي وجدانيّة لكلّ أحد وما وراء ذلك من حقيقتها وصفاتها فأمر غامض لا سبيل إلى الوقوف عليه. وقد صرّح بذلك محقّقوهم حيث ذهبوا إلى أنّ مالا مادّة له لا يمكن البرهان عليه لأنّ مقدّمات البرهان من شرطها أن تكون ذاتيّة. وقال كبيرهم أفلاطون: إنّ الإلهيّات لا يوصل فيها إلى أينين [١] وإنّما يقال فيها بالأخلق [٢] والأولى يعني الظّنّ: وإذا كنّا إنّما نحصل بعد التّعب والنّصب على الظّنّ فقط فيكفينا الظّنّ الّذي كان أوّلا فأيّ فائدة لهذه العلوم والاشتغال بها ونحن إنّما عنايتنا بتحصيل اليقين فيما وراء الحسّ من الموجودات وهذه هي غاية الأفكار الإنسانيّة عندهم. وأمّا قولهم إنّ السّعادة في إدراك


[١] وفي نسخة أخرى: يقين.
[٢] وفي نسخة أخرى: بالأحق.

<<  <  ج: ص:  >  >>