والفارابيّ وابن سينا أنّ من حصل له إدراك العقل الفعّال واتّصل به في حياته فقد حصّل حظّه من هذه السّعادة. والعقل الفعّال عندهم عبارة عن أوّل رتبة ينكشف عنها الحسّ من رتب الرّوحانيّات ويحملون الاتّصال بالعقل الفعّال على الإدراك العلميّ وقد رأيت فساده وإنّما يعني أرسطو وأصحابه بذلك الاتّصال والإدراك إدراك النّفس الّذي لها من ذاتها وبغير واسطة وهو لا يحصل إلّا بكشف حجاب الحسّ. وأمّا قولهم إنّ البهجة النّاشئة عن هذا الإدراك هي عين السّعادة الموعود بها فباطل أيضا لأنّا إنّما تبيّن لنا بما قرّروه أنّ وراء الحسّ مدركا آخر للنّفس من غير واسطة وأنّها تبتهج بإدراكها ذلك ابتهاجا شديدا وذلك لا يعيّن لنا أنّه عين السّعادة الأخرويّة ولا بدّ بل هي من جملة الملاذّ الّتي لتلك السّعادة. وأمّا قولهم إنّ السّعادة في إدراك هذه الموجودات على ما هي عليه فقول باطل مبنيّ على ما كنّا قدّمناه في أصل التّوحيد من الأوهام والأغلاط في أنّ الوجود عند كلّ مدرك منحصر في مداركه وبيّنّا فساد ذلك وإنّ الوجود أوسع من إن يحاط به أو يستوفي إدراكه بجملته روحانيّا أو جسمانيّا. والّذي يحصل من جميع ما قرّرناه من مذاهبهم أنّ الجزء الرّوحانيّ إذا فارق القوى الجسمانيّة أدرك إدراكا ذاتيا له مختصّا بصنف من المدارك وهي الموجودات الّتي أحاط بها علمنا وليس بعامّ الإدراك في الموجودات كلّها إذ لم تنحصر وأنّه يبتهج بذلك النّحو من الإدراك ابتهاجا شديدا كما يبتهج الصّبيّ بمداركه الحسيّة في أوّل نشوءه ومن لنا بعد ذلك بإدراك جميع الموجودات أو بحصول السّعادة الّتي وعدنا بها الشّارع إن لم نعمل لها، هيهات هيهات لما توعدون. وأمّا قولهم إنّ الإنسان مستقلّ بتهذيب نفسه وإصلاحها بملابسة المحمود من الخلق ومجانبة المذموم فأمر مبنيّ على أنّ ابتهاج للنّفس بإدراكها الّذي لها من ذاتها هو عين السّعادة الموعود بها لأنّ الرّذائل عائقة للنّفس عن تمام إدراكها ذلك بما يحصل لها من الملكات الجسمانيّة وألوانها. وقد بيّنّا أنّ أثر السّعادة والشّقاوة ومن وراء الإدراكات