للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإنّما يقصدون جمع الهمّة والإقبال على الله بالكلّيّة ليحصل لهم أذواق أهل العرفان والتّوحيد ويزيدون في رياضتهم إلى الجمع والجوع التّغذية بالذّكر فبها تتمّ وجهتهم في هذه الرّياضة لأنّه إذا نشأت النّفس على الذّكر كانت أقرب إلى العرفان باللَّه وإذا عرّيت عن الذّكر كانت شيطانيّة وحصول ما يحصل من معرفة الغيب والتّصرّف لهؤلاء المتصوّفة إنّما هو بالعرض ولا يكون مقصودا من أوّل الأمر لأنّه إذا قصد ذلك كانت الوجهة فيه لغير الله وإنّما هي لقصد التّصرّف والاطّلاع على الغيب وأخسر بها صفقة فإنّها في الحقيقة شرك قال بعضهم: «من آثر العرفان للعرفان فقد قال بالثّاني [١] » فهم يقصدون بوجهتهم المعبود لا لشيء سواه وإذا حصل في أثناء ذلك ما يحصل فبالعرض وغير مقصود لهم وكثير منهم يفرّ منه إذا عرض له ولا يحفل به وإنّما يريد الله لذاته لا لغيره وحصول ذلك لهم معروف ويسمّون ما يقع لهم من الغيب والحديث على الخواطر فراسة وكشفا وما يقع لهم من التّصرّف كرامة وليس شيء من ذلك بنكير في حقّهم وقد ذهب إلى إنكاره الأستاذ أبو إسحاق الأسفراينيّ وأبو محمّد بن أبي زيد المالكيّ في آخرين [٢] فرارا من التباس المعجزة بغيرها والمعوّل عليه عند المتكلّمين حصول التّفرقة بالتحدّي فهو كاف. وقد ثبت في الصّحيح أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ فيكم محدّثين وإنّ منهم عمر» وقد وقع للصّحابة من ذلك وقائع معروفة تشهد بذلك في مثل قول عمر رضي الله عنه «يا سارية الجبل» وهو سارية بن زنيم كان قائدا على بعض جيوش المسلمين بالعراق أيّام الفتوحات وتورّط مع المشتركين في معترك وهمّ بالانهزام وكان بقربة جبل يتحيّز إليه فرفع لعمر ذلك وهو يخطب على المنبر بالمدينة فناداه يا سارية الجبل وسمعه سارية وهو بمكانه ورأى شخصه هنالك والقصّة معروفة ووقع مثله أيضا لأبي بكر في وصيّته


[١] أي أشرك باللَّه بمعنى ان الله له ثان.
[٢] استعمال غير صحيح، وقد استعمله ابن خلدون في مواضع متفرقة من كتابه والصحيح: أخرون.

<<  <  ج: ص:  >  >>