للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من عشّه وغلب على أمره وكان يدعوه يا أبت فتوجّه الإيثار من السّلطان إليهم وعظمت الدّالّة منهم وانبسط الجاه عندهم وانصرفت نحوهم الوجوه وخضعت لهم الرّقاب وقصرت عليهم الآمال وتخطّت إليهم من أقصى التخوم هدايا الملوك وتحف الأمراء وتسرّبت إلى خزائنهم في سبيل التّزلّف والاستمالة أموال الجباية وأفاضوا في رجال الشّيعة وعظماء القرابة العطاء وطوّقوهم المنن وكسبوا [١] من بيوتات الأشراف المعدم وفكّوا العاني [٢] ومدحوا بما لم يمدح به خليفتهم وأسنّوا لعفاتهم [٣] الجوائز والصّلات واستولوا على القرى والضّياع من الضّواحي والأمصار في سائر الممالك حتّى أسفّوا البطانة وأحقدوا الخاصّة وأغصّوا [٤] أهل الولاية فكشفت لهم وجوه المنافسة والحسد ودبّت إلى مهادهم الوثير من الدّولة عقارب السّعاية حتّى لقد كان بنو قحطبة أخوال جعفر من أعظم السّاعين عليهم لم تعطفهم لما وقر في نفوسهم من الحسد عواطف الرّحم ولاوزعتهم أواصر القرابة وقارن ذلك عند مخدومهم نواشئ الغيرة والاستنكاف من الحجر والأنفة وكان الحقود الّتي بعثتها منهم صغائر الدّالّة. وانتهى بها الإصرار على شأنهم إلى كبائر المخالفة كقصّتهم في يحيى بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب أخي محمّد المهديّ الملقّب بالنّفس الزّكيّة الخارج على المنصور ويحيى هذا هو الّذي استنزله الفضل بن يحيى من بلاد الدّيلم على أمان الرّشيد بخطّه وبذل لهم فيه ألف ألف درهم على ما ذكره الطّبريّ ودفعه الرّشيد إلى جعفر وجعل اعتقاله بداره وإلى نظره فحبسه مدّة ثمّ حملته الدّالّة على تخلية سبيله والاستبداد بحلّ عقاله حرما [٥] لدماء أهل البيت بزعمه ودالّة على السّلطان في حكمه. وسأله الرّشيد عنه لمّا وشي به إليه ففطن وقال أطلقته فأبدى له وجه


[١] يتعدى فعل كسب بنفسه إلى مفعول ثان، وهو هنا بمعنى: كسب فلانا مالا أي اناله (قاموس) .
[٢] العاني: الأسير.
[٣] اسنوا الجوائز: أي اجزلوها، والعفاة جمع عاف، وهو طالب المعروف.
[٤] ثقال كلمة غص للطعام، واستعملها هنا ابن خلدون للغيظ على التشبيه.
[٥] أي لحرمة دماء أهل البيت.

<<  <  ج: ص:  >  >>