ذلك للقاضي مع ما تقدّم وصار ذلك من توابع وظيفة ولايته واستقرّ الأمر لهذا العهد على ذلك وخرجت هذه الوظيفة عن أهل عصبيّة الدّولة لأنّ الأمر لمّا كان خلافة دينيّة وهذه الخطّة من مراسم الدّين فكانوا لا يولّون فيها إلّا من أهل عصبيّتهم من العرب ومواليهم بالحلف أو بالرّقّ أو بالاصطناع ممّن يوثق بكفايته أو غنائه فيما يدفع إليه، ولمّا انقرض شأن الخلافة وطورها وصار الأمر كلّه ملكا أو سلطانا صارت هذه الخطط الدّينيّة بعيدة عنه بعض الشّيء لأنّها ليست من ألقاب الملك ولا مراسمه ثمّ خرج الأمر جملة من العرب وصار الملك لسواهم من أمم التّرك والبربر فازدادت هذه الخطط الخلافيّة بعدا عنهم بمنحاها وعصبيّتها. وذلك أنّ العرب كانوا يرون أنّ الشّريعة دينهم وأنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم منهم وأحكامه وشرائعه نحلتهم بين الأمم وطريقهم، وغيرهم لا يرون ذلك إنّما يولّونها جانبا من التّعظيم لما دانوا بالملّة فقط. فصاروا يقلّدونها من غير عصابتهم ممّن كان تأهّل لها في دول الخلفاء السّالفة.
وكان أولئك المتأهّلون بما أخذهم ترف الدّول منذ مئين من السّنين قد نسوا عهد البداوة وخشونتها والتبسوا بالحضارة في عوائد ترفهم ودعتهم، وقلّة الممانعة عن أنفسهم، وصارت هذه الخطط في الدّول الملوكيّة من بعد الخلفاء مختصّة بهذا الصّنف من المستضعفين في أهل الأمصار ونزل أهلها عن مراتب العزّ لفقد الأهليّة بأنسابهم وما هم عليه من الحضارة فلحقهم من الاحتقار ما لحق الحضر المنغمسين في التّرف والدّعة، البعداء عن عصبيّة الملك الّذين هم عيال على الحامية، وصار اعتبارهم في الدّولة من أجل قيامها بالملّة وأخذها بأحكام الشّريعة، لما أنّهم الحاملون للأحكام المقتدون بها. ولم يكن إيثارهم في الدّولة حينئذ إكراما لذواتهم، وإنّما هو لما يتلمّح من التّجمّل بمكانهم في مجالس الملك لتعظيم الرّتب الشّرعيّة، ولم يكن لهم فيها من الحلّ والعقد شيء، وإن حضروه فحضور رسميّ لا حقيقة وراءه، إذ حقيقة الحلّ والعقد إنّما هي لأهل القدرة عليه