للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تصدّع الشّمل مثل ما انحدرت ... إلى صبوب جواهر السلك

من النّوى قبل لم أزل حذرا ... هذا النّوى جلّ مالك الملك

مولاي كان الله لكم، وتولّى أمركم. أسلّم عليكم سلام الوداع، وأدعو الله في تيسير اللقاء والاجتماع، من بعد التفرّق والانصداع، وأقرّر لديكم أنّ الإنسان أسير الأقدار، مسلوب الاختيار، متقلّب في حكم الخواطر والأفكار، وأن لا بدّ لكل أوّل من آخر، وأن التفرّق لمّا لزم كلّ اثنين بموت أو حياة، ولم يكن منه بدّ، كان خير أنواعه الواقعة بين الأحباب، ما وقع على الوجوه الجميلة البريئة من الشرور.

ويعلم مولاي حال عبده منذ وصل إليكم من المغرب بولدكم، ومقامه لديكم بحال قلق، ولولا تعليلكم ووعدكم وارتقاب اللطائف في تقليب قلبكم، وقطع نواحل الأيام حريصا على استكمال سنّكم. ونهوض ولدكم واضطلاعكم بأمركم، وتمكن هدنة وطنكم، وما تحمّل في ذلك من ترك غرضه لغرضكم، وما استقرّ بيده من عهودكم، وأنّ العبد الآن تسبّب لكم في الهدنة من بعد الظهور والعزّ، ونجح السعي وتأتّي لسنين، كثيرة الصلح، ومن بعد أن لم يبق لكم بالأندلس مشغّب من القرابة، وتحرّك لمطالعة الثغور الغربيّة، وقرب من فرضة المجاز واتصال الأرض ببلاد المشرق، لطرقته الأفكار وزعزعت صبره رياح الخواطر، وتذكّر أشراف العمر على التمام، وعواقب الاستغراق، وسيرة الفضلاء عند شمول البياض، فغلبته حال شديدة هزمت التعشّق بالشمل الجميع، والوطن المليح، والجاه الكبير، والسلطان القليل النظير، وعمل بمقتضى قوله «موتوا قبل أن تموتوا [١] » فإن صحّت الحال المرجوة من إمداد الله، تنقّلت الأقدام إلى أمام، وقوى التعلّق بعروة الله الوثقى، وإن وقع العجز، أو افتضح العزم، فاللَّه يعاملنا بلطفه، وهذا المرتكب مرام صعب، لكن سهّله عليّ أمور: منها أنّ الانصراف لما لم يكن منه بد، لم يتعيّن على غير هذه الصورة، إذ كان عندكم من باب المحال، ومنها أنّ مولاي لو سمح لي بغرض الانصراف لم تكن لي قدرة على موقف وداعه، لا والله! ولكان الموت أسبق إليّ، وكفى بهذه الوسيلة الحسنة التي يعرفها وسيلة. ومنها حرصي على أن يظهر صدق دعواي فيما كنت أهتف به، وأظنّ أني لا أصدّق، ومنها اغتنام المفارقة في زمن


[١] يعني: موتوا اختيارا قبل ان تموتوا اضطرارا، وذلك يترك الشهوات.

<<  <  ج: ص:  >  >>