للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وتدرّجت على الولاء إلى آخر الخمس مائة، فكانت قيمته مائة دينار. تحدّث الناس بهذه الهديّة دهرا، وعرضت بين يدي الملك النّاصر، فأشار إلى خاسكيته بانتهابها فنهبت بين يديه، وبولغ في كرامة أولئك الضّيوف، في إنزالهم وقراهم وإزوادهم إلى الحجاز وإلى بلادهم، وبقي شأن الهدية حديثا يتجاراه الناس في مجالسهم وأسمارهم، وكان ذلك عام ثمانية وثلاثين وسبعمائة. ولمّا فصل أرسال [١] ملك المغرب، وقد قضوا فرضهم، بعث الملك النّاصر معهم هديّة كفاء هديتهم، وكانت أصنافها حمل القماش من ثياب الحرير والقماش المصنوعة بالإسكندرية، تحمل كلّ عام إلى دار السلطان، قيمة ذلك الحمل خمسون ألف دينار، وخيمة من خيام السلطان المصنوعة بالشام على مثال القصور، تشتمل على بيوت للمراقد، وأواوين للجلوس والطّبخ، وأبراج للإشراف على الطرقات، وأبراج أحدها لجلوس السلطان للعرض، وفيها تمثال مسجد بمحرابه، وعمده، ومئذنته، حوائطها كلّها من خرق الكتّان الموصولة بحبك الخياطة مفصّلة على الأشكال التي يقترحها المتّخذون لها.

وكان فيها خيمة أخرى مستديرة الشكل، عالية السمك، مخروطة الرأس، رحبة الفناء، تظلّ خمس مائة فارس أو أكثر، وعشرة من عتاق الخيل بالمراكب الذهبية الصّقيلة، ولجمها كذلك، ومرّت هذه الهدية بتونس، ومعها الخدّام القائمون بنصب الأبنية، فعرضوها على السلطان بتونس. وعاينت يومئذ أصناف تلك الهدية، وتوجّهوا بها إلى سلطانهم، وبقي التعجّب منها دهرا على الألسنة. وكان ملوك تونس من الموحدين، يتعاهدون ملوك مصر بالهديّة في الأوقات.

ولما وصلت إلى مصر، واتّصلت بالملك الظاهر، وغمرني بنعمه وكرامته، كاتبت السلطان بتونس يومئذ، وأخبرته بما عند الملك الظاهر من التّشوّف إلى جياد الخيل، وخصوصا من المغرب، لما فيها [من تحمّل] الشّدّة والصّبر على المتاعب، وكان يقول لي مثل ذلك، وأنّ خيل مصر قصّرت بها الرّاحة والتّنعّم، عن الصّبر على التّعب، فحضضت السلطان بتونس على إتحاف الملك الظاهر بما ينتقيه من الجياد الرّائعة، فبعث له خمسة انتقاها من مراكبه، وحملها في البحر في السّفين الواصل بأهلي وولدي، فغرقت بمرسى الإسكندرية، ونفقت تلك الجياد، مع ما ضاع في


[١] فصل من البلد: خرج عنه. وقد استعمل ابن خلدون «إرسال» جمع رسول في أماكن متفرقة من كتاب العبر، وهذا غير جائز في مختلف كتب اللغة.

<<  <  ج: ص:  >  >>