للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ودخلت عليه بخيمة جلوسه، متكئا على مرفقه، وصحاف الطّعام تمرّ بين يديه، يشير بها إلى عصب المغل جلوسا أمام خيمته، حلقا حلقا. فلما دخلت عليه فاتحت بالسّلام، وأوميت إيماءة الخضوع، فرفع رأسه، ومدّ يده إليّ فقبّلتها، وأشار بالجلوس فجلست حيث انتهيت. ثم استدعى من بطانته الفقيه عبد الجبّار بن النّعمان من فقهاء الحنفيّة بخوارزم [١] ، فأقعده يترجم ما بيننا، وسألني من أين جئت من المغرب؟ ولما [٢] جئت؟ فقلت: جئت من بلادي لقضاء الفرض ركبت إليها [٣] البحر، ووافيت مرسى الإسكندرية يوم الفطر سنة أربع وثمانين من هذه المائة الثامنة، والمفرحات بأسوارهم لجلوس الظّاهر على تخت الملك لتلك العشرة الأيام بعددها. فقال لي: وما فعل معك؟ قلت كل خير، برّ مقدمي، وأرغد قراي، وزوّدني للحجّ، ولما رجعت وفّر جرايتي، وأقمت في ظلّه ونعمته، رحمه الله وجزاه.

فقال: وكيف كانت توليته إياك القضاء؟ فقلت: مات قاضي المالكيّة قبل موته بشهر، وكان يظنّ بي المقام المحمود في القيام بالوظيفة، وتحرّي المعدلة والحق، والإعراض عن الجاه، فولّاني مكانه، ومات لشهر بعدها، فلم يرض أهل الدّولة بمكاني، فأدالوني منها بغيري جزاهم الله. فقال لي: وأين ولدك؟ فقلت: بالمغرب الجوّاني كاتب [٤] للملك الأعظم هنالك. فقال وما معنى الجوّاني في وصف المغرب؟ فقلت هو عرف خطابهم معناه الدّاخلي، أي الأبعد، لأن المغرب كلّه على ساحل البحر الشامي من جنوبه، فالأقرب الى هنا برقة، وإفريقية [٥] ، والمغرب الأوسط [٦] : تلمسان وبلاد زناتة، والأقصى: فاس ومراكش، وهو معنى


[١] هو: (عبد الجبار بن النعمان المعتزلي، أحد خواص تيمور الذين طافوا معه البلاد، وأهلكوا العباد، وأظهروا الظلم والفساد) . ذكره علاء الدين في (تاريخ حلب) وقال: اجتمعت به، فوجدته ذكيا فاضلا، وسألته عن مولده، فقال: يكون لي نحو الأربعين. ورأيت شرح الهداية لأكمل الدين، وقد طالعة عبد الجبار المذكور، وعلّم على مواضع منه، ذكر أنها غلط. وذكره ابن المبرد في (الرياض) وقال: (كان له معرفة بالفقه، والعلوم العقلية، وكان يمتحن العلماء ويناظرهم بين يدي اللنك. وهو من قلة الدين على جانب كبير. توفي سنة ٨٠٨ هـ) .
[٢] كذا في الأصل بإثبات ألف (ما) المجرورة عند الاستفهام، ومن لغة حكوها عن الأخفش.
[٣] كذا بالأصل.
[٤] كذا في الأصل.
[٥] هي المملكة التونسية اليوم.
[٦] مكانه اليوم بلاد (الجزائر) .

<<  <  ج: ص:  >  >>