وكان رحمه الله لحسن عشرته وطهارة [٣٥٣] أخلاقه ونزاهة نفسه إذا دخل إليه أديب أو عالم متفرد بفن سكت له وأصغى إليه واستحسن كل ما يسمعه منه استحسان من لا يعرف منه إلّا قدر ما يفهم به ما يورد عليه حتى إذا طاوله وأتت الشهور والسنون على محاضرته واتفق له أن يسأله عن شيء أو يجرى بحضرته نبذ منه فرغب إليه فى إتمامه، تدفق حينئذ بحره وجاش خاطره وبهت من كان عند نفسه أنّه بارع فى ذلك الفن والمعنى وما أكثر من خجل عنده من المعجبين بأنفسهم ولكن بعد أن يمدّ لهم فى الميدان ويرخى من أعنّتهم ويمسك عنهم مدة حتى ينفد ما عندهم ويجزل لهم العطاء عليه.
[اختصاصه بغرائب العلوم]
فهذه كانت مرتبته فى العلوم والآداب المعروفة ثم كان يختصّ بغرائب من العلوم الغامضة التي لا يدعيها أحد كعلوم الحيل التي يحتاج فيها إلى أواخر علوم الهندسة والطبيعة والحركات الغريبة وجرّ الثقيل ومعرفة مراكز الأثقال وإخراج كثير مما امتنع على القدماء من القوة إلى الفعل وعمل آلات غريبة لفتح القلاع والحيل على الحصون وحيل فى الحروب مثل ذلك واتخاذ أسلحة عجيبة وسهام تنفذ أمدا بعيدا وتؤثر آثارا عظيمة ومرائى [١] تحرق على مسافة بعيدة جدّا ولطف كف لم يسمع بمثله ومعرفة بدقائق علم [٣٥٤] التصاوير وتعاط له بديع. ولقد رأيته يتناول من مجلسه الذي يخلو فيه بثقاته