كانت البجّة لا تغزو المسلمين ولا يغزوهم المسلمون لهدنة بينهم قديمة [٣٣٥] وهم جنس من أجناس الحبشة وفى بلادهم معادن ذهب. فهم يقاسمون من يعمل فيها ويؤدّون إلى عمّال مصر فى كلّ سنة شيئا معلوما.
فلمّا كان فى أيّام المتوكّل امتنعت البجّة عن أداء ذلك الخراج سنين متوالية وهذه المعادن منها ما هو على التخوم فيما بين أرض مصر وبلاد بجّة. فقتلوا عدّة من المسلمين ممّن كان يعمل فى المعادن ويستخرج الذهب، وسبوا عدّة من ذراريهم ونسائهم. وذكروا أنّ المعادن لهم فى بلادهم وأنهم لا يأذنون للمسلمين فى دخولها، وانّ ذلك أوحش المسلمين الذين كانوا يعملون هناك حتّى انصرفوا عنه، فانقطع ما كان يؤخذ للسلطان بحقّ الخمس الذي كان يستخرج من المعادن.
فلمّا بلغ ذلك المتوكّل أحفظه، وشاور فى أمر البجّة فأنهى إليه أنّهم قوم أهل بدو وأصحاب إبل وماشية، وأنّ الوصول إلى بلادهم صعب لا يمكن أن تسلك إليهم الجيوش لأنّها مفاوز وصحار، وبين أرض الإسلام وبينها مسيرة شهر فى أرض قفر وجبال وعرة لا ماء فيها ولا زرع ولا معقل ولا حصن، وأنّ من يدخلها من أولياء السلطان [٣٣٦] يحتاج أن يتزوّد لجميع من معه المدّة التي يتوهّم أنّه يقيمها فى بلادهم حتّى يخرج إلى أرض الإسلام. فإن تجاوز تلك المدّة هلك وجمع من معه وأخذتهم البجّة بالأيدى دون المحاربة، وأنّ أرضهم لا تردّ على السلطان شيئا من خراج ولا غيره.
فأمسك المتوكّل عن التوجيه إليهم وجعل أمرهم يتزيّد وحربهم يكثر حتّى خاف أهل الصعيد من أرض مصر على أنفسهم وذراريّهم. فولّى المتوكّل محمد بن عبد الله القمي محاربتهم وولّاه معادن تلك الكور، وتقدّم إليه فى