بيد أنّ مسكويه لا حظ أنّ تلك الأخبار التاريخيّة الحقّة مغمورة بالأسمار، متبدّدة في الخرافات والأساطير التي ليست لها فائدة إلّا استجلاب النوم بها، والتأنّس بالمستطرف منها. فأخذها بالنقد واستخراج ذات القيمة منها، وضرب صفحا عمّا لم يجد فيها قيمة تاريخيّة تجريبيّة وتركها وهو يرى أنّ للأحداث التاريخيّة الحقّة أيضا أنس السمر الذي يوجد في الخرافات والأساطير. إنّ مسكويه لم يثق بروايات ما قبل الطوفان، لفقدانها القيمة التاريخيّة التي ينشدها هو، كما لم يجد في المعجزات تجربة إنسيّة يستطيع الجميع أن يمارسوا مثلها، أو يعتبروا بها، وهذا لا يعنى أنّه ترك ما كان للأنبياء من تدابيرهم البشريّة التي ليست مقرونة بالإعجاز، لأنّ هذا النمط من أخبارهم وارد في صميم ما اهتمّ به مسكويه في كتابة التاريخ. مع العلم بأنّ لمسكويه كتابا في صفات الأنبياء السالفين تحت عنوان: أحوال الحكماء وصفات الأنبياء السالفين (أنظر التصدير: الآثار) . وهذا ردّ على المستشرق كرادى فو (I ,١٠٦) في ما اتّهمه به من أنّه لم يحترم السنّة. وأخيرا، عمد مسكويه إلى أحداث تجرى على البخت والاتّفاق، ممّا هو خارج عن نطاق تدبير الإنسان وقدرته، حتى تكون في حسبانه، ولا تسقط من ديوان الحوادث عنده، وما ينتظر وقوع مثله، وإن لم يستطع تحرّزا من مكروهه.
إنّه لن ينسى ما ضمنه في مقدّمة الكتاب، بل نراه يؤكد هنا وهناك وبمناسبات شتّى، على أغراضه ويصرّ على المضىّ في النهج الذي نهجه لنفسه في عمله. فحينا نراه يبرّر تركه ذكر بعض الأشياء بقوله: «لخروجها عمّا بنينا عليه غرض هذا الكتاب (٢٦٤ بن ١) ، وحينا يؤكّد على هذا الغرض حتى في عنوان حدث أراد ذكره. ففي عنوان الحديث عن الشورى يقول:
«ذكر ما يجب ذكره من حديث الشورى وما يليق منه بهذا الكتاب.» وكذلك، وبعد أن ينقل الحوار الذي جرى بين الإمام على بن أبى طالب والزبير: الحوار الذي أثّر في الزبير حتى أقسم لا يحارب عليّا- لولا وسوسة ابنه له واقتراحه التكفير عن اليمين بعتق غلام له يقال له: مكحول- وبعد إيراده هذا الحدث نراه يقول:«وإنّما حكينا هذه الحكاية لأنّ فيها تجربة تستفاد، وإن ذهب على قوم فإنّا ننبّه عليه، وذلك أنّ المحنق ربما سكن بالكلام الصحيح، والساكن ربما أحنق بالزور من الكلام، وذلك بحسب تأتّى من يريد ذلك، وإتيانه من وجهه.»