للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

(٥٥٠ بن ١) . ولا يهمّه في ذلك شخصيّة القائل أو الفاعل، ولا ينظر إلى من قال أو فعل، بل يهمّه مغزى ما قال أو فعل، من حيث تلاؤمه وأغراضه في كتابه تجارب الأمم. فنراه يستحسن موقفا من مواقف الضحّاك الشهير بالسفك والقتل والظلم، وينقل كلاما منه حيث قال في الإجابة على أمّه البذيئة: «فلمّا هممت بالسطوة بهم (أى: بكابى الاصبهانى وأصحابه عند ما زاروه للتأتّى له واستعطافه- ١٥- ١٤ بن ١) وقف الحقّ بيني وبينهم كالجبل، فحال بيني وبين ما أردت.» ثم يعلّق مسكويه على هذا الكلام بقوله: «فهذا ما استحسن من فعل الضحّاك وقوله ولا يعرف له شيء مستحسن غيره.» إنّ هذا الالتزام الواعي الذي يبديه مسكويه تجاه منهجه، هو ما لا نراه عند كثير من المصنّفين. فمسكويه، كما قال روزنتال (١٩٦، ١٩٧) يمثّل مستوى عاليا في الكتابة التاريخيّة، فهو قلّما يهتمّ بالأمور التافهة، بل يدرك كلّ ما له قيمة تاريخيّة جوهريّة، ويعرض الأحداث الهامّة بشكل معقول متماسك.

إنّ المؤرخين المسلمين- ومعظمهم ممّن تأخّر عن مسكويه وتأثّر به بالذات- نظروا إلى التاريخ من حيث هو درس وعظة وعبرة، ولكنّ مسكويه، السابق في هذا المضمار، هو المؤرّخ الوحيد الذي نهج منهج الاستدلال الفلسفي مع ما كان له من نظرة أخلاقية عمليّة برغماتية (Pragmatic) إلى حوادث التاريخ (زرياب: ١٨٠- بتصرّف) . إنّك لا تجد بين المؤرّخين المسلمين مؤرّخا عمد إلى التاريخ عن وعى وجدّ، نشدانا للفوائد التي تنطوى عليها أحداثه، بالمستوى الذي عمد إليه مسكويه. إنّه حكيم أخلاقىّ، ومصنّف كتاب حكيم باسم تجارب الأمم. كما هو رائد في الكتابة العلميّة للتاريخ، وأوّل من شقّ الطريق إلى فلسفة التاريخ، ليكون أسوة حسنة فيما بعد، لأمثال رشيد الدين فضل الله (٦٤٥- ٧١٨ هـ) في جامع التواريخ، وابن خلدون (٧٣٢- ٨٠٦ هـ) في مقدمته، ثم الكافيجي (القرن التاسع) في كتابه: المختصر في علم التاريخ، والسخاوي (٨٣٠- ٩٢٠ هـ) في كتابه: الإعلان بالتوبيخ لمن ذمّ أهل التاريخ (زرين كوب: ٧١، ٧٤- بتصرف) . وهناك ميزة أخرى أشار إليها كيتانى في مقدمته حيث قال: إنّ الأثر الذي بقي لنا من مسكويه، بنى على أساس منهج قريب جدا من المبادئ المتّبعة عند مؤرّخى العالم الغربي والمؤرّخين المتأخّرين، ومسكويه خلافا لسلفه الشهير الطبري الذي استهدف- أساسا- جمع المواد التاريخيّة،

<<  <  ج: ص:  >  >>