للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَأَمَّا " ثَالِثًا " فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْكَلَامُ إلَّا مَعْنًى لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ تَكْلِيمِ اللَّهِ لِمُوسَى وَإِيحَائِهِ إلَى غَيْرِهِ وَلَا بَيْنَ التَّكْلِيمِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ وَالتَّكْلِيمِ إيحَاءً؛ فَإِنَّ إيصَالَ مَعْرِفَةِ الْمَعْنَى الْمُجَرَّدِ إلَى الْقُلُوبِ يَشْتَرِكُ فِيهِ جَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ؛ وَلِهَذَا قَالَ مَنْ بَنَى عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْفَاسِدِ: إنَّ الْوَاحِدَ مِنْ أَهْلِ الرِّيَاضَةِ قَدْ يَسْمَعُ كَلَامَ اللَّهِ كَمَا سَمِعَهُ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ فِي " الْإِحْيَاءِ " وَنَحْوِهِ وَصَارَ الْوَاحِدُ مِنْ هَؤُلَاءِ يَظُنُّ أَنَّ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ الْإِلْهَامَاتِ هِيَ مِثْلُ تَكْلِيمِ اللَّهِ لِمُوسَى بْنِ عِمْرَانَ. وَدَخَلَتْ " الْفَلَاسِفَةُ " مِنْ هَذَا الْبَابِ فَزَعَمُوا أَنَّ تَكْلِيمَ اللَّهِ لِمُوسَى إنَّمَا هُوَ فَيْضٌ فَاضَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ وَأَنَّ " كَلَامَ اللَّهِ " لَيْسَ إلَّا مَا يَحْصُلُ فِي النُّفُوسِ مِنْ الْمُخَاطَبَاتِ كَمَا أَنَّ " الْمَلَائِكَةَ " مَا يَحْصُلُ فِي الْقُلُوبِ مِنْ الصُّوَرِ الْخَيَالِيَّةِ وَمِثْلُ هَذَا قَدْ يَحْصُلُ فِي الْيَقَظَةِ وَالْمَنَامِ. فَجَعَلُوا تَكْلِيمَ اللَّهِ لِمُوسَى بْنِ عِمْرَانَ مَنْ جِنْسِ مَنْ يَرَى رَبَّهُ فِي الْمَنَامِ وَهُوَ يُكَلِّمُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَهُوَ لَازِمٌ لِقَوْلِ مَنْ جَعَلَ كَلَامَ اللَّهِ مَعْنًى مُجَرَّدًا وَإِذَا كَانَ اللُّزُومُ مَعْلُومَ الْفَسَادِ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ عُلِمَ فَسَادُ اللَّازِمِ. وَأَمَا " رَابِعًا " فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْكَلَامُ إلَّا مُجَرَّدَ الْمَعَانِي لَكَانَ الْمَخْلُوقُ أَكْمَلَ مِنْ الْخَالِقِ؛ فَإِنَّا كَمَا نَعْلَمُ أَنَّ الْحَيَّ أَكْمَلُ مِنْ الْمَيِّتِ وَأَنَّ الْعَالِمَ أَكْمَلُ مِنْ الْجَاهِلِ وَالْقَادِرَ أَكْمَلُ مِنْ الْعَاجِزِ وَالنَّاطِقَ أَكْمَلُ مِنْ الْأَخْرَسِ؛ فَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ النَّاطِقَ بِالْمَعَانِي وَالْحُرُوفِ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَكُونُ نَاطِقًا إلَّا بِالْمَعَانِي دُونَ الْحُرُوفِ وَإِذَا كَانَ