للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فَإِنَّ الْهِجْرَةَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ التَّعْزِيرِ وَالْعُقُوبَةُ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْهِجْرَةِ الَّتِي هِيَ تَرْكُ السَّيِّئَاتِ. فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {الْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السَّيِّئَاتِ} وَقَالَ: {مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ} فَهَذَا هِجْرَةُ التَّقْوَى. وَفِي هِجْرَةِ التَّعْزِيرِ وَالْجِهَادِ: هِجْرَةُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا وَأَمَرَ الْمُسْلِمِينَ بِهَجْرِهِمْ حَتَّى تِيبَ عَلَيْهِمْ. فَالْهِجْرَةُ تَارَةً تَكُونُ مِنْ نَوْعِ التَّقْوَى إذَا كَانَتْ هَجْرًا لِلسَّيِّئَاتِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْمُتَّقِينَ خِلَافُ الظَّالِمِينَ وَأَنَّ الْمَأْمُورِينَ بِهِجْرَانِ مَجَالِسِ الْخَوْضِ فِي آيَاتِ اللَّهِ هُمْ الْمُتَّقُونَ. وَتَارَةً تَكُونُ مِنْ نَوْعِ الْجِهَادِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ وَهُوَ عُقُوبَةُ مَنْ اعْتَدَى وَكَانَ ظَالِمًا. وَعُقُوبَةُ الظَّالِمِ وَتَعْزِيرُهُ مَشْرُوطٌ بِالْقُدْرَةِ؛ فَلِهَذَا اخْتَلَفَ حُكْمُ الشَّرْعِ فِي نَوْعَيْ الْهِجْرَتَيْنِ: بَيْنَ الْقَادِرِ وَالْعَاجِزِ وَبَيْنَ قِلَّةِ نَوْعِ الظَّالِمِ الْمُبْتَدِعِ وَكَثْرَتِهِ وَقُوَّتِهِ وَضَعْفِهِ كَمَا يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ بِذَلِكَ فِي سَائِرِ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ. فَإِنَّ كُلَّمَا حَرَّمَهُ اللَّهُ فَهُوَ ظُلْمٌ؛ إمَّا فِي حَقِّ اللَّهِ فَقَطْ وَإِمَّا فِي حَقِّ عِبَادِهِ وَإِمَّا فِيهِمَا. وَمَا أَمَرَ بِهِ مِنْ هَجْرِ التُّرْكِ وَالِانْتِهَاءِ وَهَجْرِ الْعُقُوبَةِ وَالتَّعْزِيرِ إنَّمَا هُوَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ