كَمَا يُدْرِكُ الْمَاهِيَّةَ الْمُشْتَرِكَةَ فَالْمُشْتَرَكُ ثُبُوتُهُ فِي الذِّهْنِ لَا فِي الْخَارِجِ وَمَا فِي الْخَارِجِ لَيْسَ فِيهِ اشْتِرَاكٌ أَلْبَتَّةَ وَالذِّهْنُ إنْ أَدْرَكَ الْمَاهِيَّةَ الْمُعَيَّنَةَ الْمَوْجُودَةَ فِي الْخَارِجِ لَمْ يَكُنْ فِيهَا اشْتِرَاكٌ وَإِنَّمَا الِاشْتِرَاكُ فِيمَا يُدْرِكُهُ مِنْ الْأُمُورِ الْمُطْلَقَةِ الْعَامَّةِ وَلَيْسَ فِي الْخَارِجِ شَيْءٌ مُطْلَقٌ عَامٌّ بِوَصْفِ الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ وَإِنَّمَا فِيهِ الْمُطْلَقُ لَا بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ إلَّا مُعَيَّنًا. فَيَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ ثُبُوتِ الشَّيْءِ وَوُجُودِهِ فِي نَفْسِهِ وَبَيْنَ ثُبُوتِهِ وَوُجُودِهِ فِي الْعِلْمِ فَإِنَّ ذَاكَ هُوَ الْوُجُودُ الْعَيْنِيُّ الْخَارِجِيُّ الْحَقِيقِيُّ وَأَمَّا هَذَا فَيُقَالُ لَهُ الْوُجُودُ الذِّهْنِيُّ وَالْعِلْمِيُّ وَمَا مِنْ شَيْءٍ إلَّا لَهُ هَذَانِ الثبوتان فَالْعِلْمُ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِاللَّفْظِ وَيُكْتَبُ اللَّفْظُ بِالْخَطِّ فَيَصِيرُ لِكُلِّ شَيْءٍ أَرْبَعُ مَرَاتِبَ: وُجُودٌ فِي الْأَعْيَانِ وَوُجُودٌ فِي الْأَذْهَانِ وَوُجُودٌ فِي اللِّسَانِ وَوُجُودٌ فِي الْبَنَانِ وُجُودٌ عَيْنِيٌّ وَعِلْمِيٌّ وَلَفْظِيٌّ وَرَسْمِيٌّ. وَلِهَذَا كَانَ أَوَّلُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ سُورَةَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} ذَكَرَ فِيهَا النَّوْعَيْنِ فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} فَذَكَرَ جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ بِوُجُودِهَا الْعَيْنِيِّ عُمُومًا ثُمَّ خُصُوصًا فَخَصَّ الْإِنْسَانَ بِالْخَلْقِ بَعْدَمَا عَمَّ غَيْرَهُ ثُمَّ قَالَ: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} فَخَصَّ التَّعْلِيمَ لِلْإِنْسَانِ بَعْدَ تَعْمِيمِ التَّعْلِيمِ بِالْقَلَمِ وَذَكَرَ الْقَلَمَ لِأَنَّ التَّعْلِيمَ بِالْقَلَمِ هُوَ الْخَطُّ وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِتَعْلِيمِ اللَّفْظِ فَإِنَّ الْخَطَّ يُطَابِقُهُ وَتَعْلِيمُ اللَّفْظِ هُوَ الْبَيَانُ وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِتَعْلِيمِ الْعِلْمِ لِأَنَّ الْعِبَارَةَ تُطَابِقُ الْمَعْنَى.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute