[الخلاف في عدد الركوعات في صلاة الكسوف والراجح في ذلك]
قال: [وفي رواية لـ مسلم: (صلى حين كسفت الشمس ثماني ركعات في أربع سجدات) ] .
في رواية ابن عباس عند البخاري ومسلم التي ساقها المؤلف أولاً أربعة ركوعات في ركعتين، يعني أن في كل ركعة ركوعين، ثم جاءنا بزيادة عند مسلم فيها أنه صلى ثماني ركوعات، أي أنه ركع في كل ركعة أربعة ركوعات، فرواية ابن عباس بذاتها يختلف فيها البخاري ومسلم، فـ البخاري يتفق مع مسلم على أن الركوع ركوعان في الركعة، ومسلم ينفرد بزيادة أن الركوعات كانت ثمانية.
وهنا بداية الخلاف بين العلماء، وكما يقول الشوكاني رحمه الله: إن قدر أن الصلاة تعددت فالأمر سهل، وتُحمل كل واحدة من الصلاتين على عدد، فمرةً صلى صلاة بأربعة ركوعات، ومرةً أخرى صلى بثمانية ركوعات، ويكون ذلك بحسب انجلاء الشمس وعدمه؛ لأن في بعض الروايات: أنه صلى الله عليه وسلم كان يوكَّل رجلاً بعد كل ركعة أن ينظر إلى الشمس هل انجلت أو لا فإن قدر أو احتمل أن الصلاة تعددت فيكون الجمع هيناً، فيقال: تارةً انجلت بسرعة فاكتفى بركوعين، وتارةً طال الكسوف فأطال في الصلاة وركع أربعة ركوعات في كل ركعة.
أما إذا لم تثبت صلاة الكسوف أكثر من مرة، ورجح وصح عند الجميع أنه صلاها مرة واحدة، وأنها لم تكسف في عهده صلى الله عليه وسلم إلا مرة واحدة يوم أن مات إبراهيم، فلا يمكن أن يقع في صلاة واحدة ركوعان وأربعة وخمسة وثمانية.
فإن قيل: فما العمل؟ قلنا: إن منهج علماء الحديث فيما تعارض واختلف أنه إن أمكن الجمع صير إليه، وإن لم يمكن الجمع يصار إلى الترجيح، وإمكان الجمع لا يتأتى في هذه؛ لأنها صلاة واحدة والموقف واحد، بخلاف ما إذا أمكن الجمع، فعلى سبيل المثال -فيما يمكن فيه الجمع- جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنهما وقال: يا ابن عباس! والله إني قد وجد في صدري شيء، قال: ماذا يا ابن أخي؟! قال: ما حج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة واحدة، وإني لأسمع من يقول: إنه لبى من مصلاه -أي: قبل أن يركب الراحلة-، وأسمع آخر يقول: لبى حينما انبعثت به راحلته -يعني: على ظهر الناقة-، وأسمع من يقول: لبى بالبيداء -أي: بعد أن طلع من الوادي إلى البيداء- وهي حجة واحدة، فكيف يكون هذا الخلاف؟ قال ابن عباس: تعال -يا ابن أخي! - أبين لك -وهذا هو فقه الحديث، وهو الجمع بين الروايات المختلفة التي يمكن الجمع بينها بحيث لا تتعارض رواية مع أخرى- قال: يا ابن أخي! إن النبي صلى الله عليه وسلم لبى في مصلاه، فسمع بذلك أقوام فأخبروا بما سمعوا، ثم لما استوت به راحلته لبى فسمع بذلك أقوام، ولم يكونوا قد سمعوا التلبية الأولى فأخبروا بما سمعوا، فلما أتى البيداء لبى فسمع بذلك أقوام لم يكونوا قد سمعوا ما قبلها، وكل أخبر بما سمع، وكل صادق.
فهنا أمكن الجمع ولم يوجد تعارض لاختلاف الزمان، ولكن هنا الصلاة واحدة، فقالوا: إما الترجيح وإما النسخ، والنسخ لا يأتي إلا في حادثتين إحداهما متأخرة عن الثانية، وتكون الثانية ناسخة للأولى.
فإذا لم يثبت التعدد لم يبق إلا الترجيح، فنظروا في تلك الروايات التي جاءت بالتعدد تارة بعدد، وتارةً بعدد آخر، فرجحوا بعضها على بعض، وأول خطوة في الترجيح هي الترجيح بالصحة، فحديث ابن عباس الذي جاء بركوعين في الركعة الواحدة متفق عليه بين الشيخين، والذي جاء بأربعة ركوعات في الركعة الواحدة انفرد به مسلم عن صاحبه، وعند علماء الحديث أن الذي يرجح هو أقوى الروايات، وهي الرواية المتفق عليها، ويليها ما انفرد بها واحد منهما، ثم يليها ما جاء في بعض السنن والمسانيد وهي صحيحة، فإذا جاءت الرواية متفقاً عليها بين الشيخين: البخاري ومسلم فهذه رواية عالية في سندها وصحتها، فإذا تعارض الحديث المتفق عليه مع ما انفرد به واحد منهما، فالأقوى والأرجح هو المتفق عليه.
وكما يقولون في باب العول في الفرائض: كان علي رضي الله عنه لا يرى العول، وكان عمر رضي الله تعالى عنه يرى العول في مسائل الفرائض، وقال به وأمضاه.
ولما آلت الخلافة إلى علي جاءت إليه قضية فيها عول، فقال: أنا لا أرى العول، قالوا له: لقد وافقت عمر عليه! فقال: لقد كان رجلاً شديداً مهاباً فقالوا: لأمر اتفقت معه عليه أحب إلينا مما انفردت به.
فالمتفق عليه بين عمر وعلي أقوى من الذي انفرد به علي.
فهذه طريقة من طرق الترجيح، فعندنا رواية ركوعين وأربعة ركوعات، فعمدنا إلى الترجيح فوجدنا أن رواية الركوعين في ركعة واحدة هي الأرجح.
وقد يقول قائل: ماذا نفعل في رواية مسلم وهو من أئمة الحديث؟ نقول: إذا جاءت رواية صحيحة وعارضت رواية أصح منها، مثل رواية اتفق عليها الشيخان والأخرى انفرد بها أحدهما، فهي شاذة، وبعض العلماء يقول في هذه الرواية: ضعيفة؛ لأن فيها فلاناً وهو مدلس، ولكن الصحيح هو أن نعتبر الحديث الذي خالف أصح منه شاذاً، والشاذ لا يعمل به، فيعمل بالمتفق عليه ولا يعمل بالشاذ.
ونظير هذا أيضاً ما جاء في قضية زواج النبي صلى الله عليه وسلم من ميمونة، فهناك من يروي: أنه تزوجها وهو حلال بعد أن تحلل من العمرة، ومنهم من يروي: أنه تزوجها وهو محرم، وكل من الأئمة قد أخذ بأحد هاتين الروايتين، فبعضهم أخذ بأنه تزوجها وهو حلال، وبعضهم أخذ رواية أنه تزوجها وهو محرم، فاختلفت الروايتان وكلتاهما صحيحتان، قالوا: لما تعارضت الروايتان جمعنا الطرق فوجدنا من يروي بأنه تزوجها وهو محرم ليس له علاقة بالقضية، ووجدنا من يروي أنه تزوجها وهو حلال كان هو السفير بينهما، أي: الواسطة بين رسول الله وبين ميمونة رضي الله تعالى عنها، فيكون على ذلك الأعرف بالقضية هو من كان الواسطة.
كما وجدنا أن ميمونة نفسها صاحبة القصة أخبرت بأنه تزوجها وهو حلال، فرواية (تزوجها وهو محرم) صحيحة، ورواية السفير بينهما ورواية صاحبة القصة بأنه تزوجها بعد أن تحلل أيضاً صحيحة، فنأخذ برواية السفير بينهما، وبرواية صاحبة القصة، ونقول في الرواية الأخرى: هي شاذة؛ لأن فيها ثقة خالف الثقات.
قال المؤلف رحمه الله: [وعن علي رضي الله عنه مثل ذلك] .
أي: مثل حديث ابن عباس، ونقول: ليس عندنا إلا الترجيح.
قال المؤلف رحمه الله: [وله عن جابر (صلى ست ركعات بأربع سجدات) ] .
أي: أن في كل ركعة ثلاثة ركوعات، ونعود إلى حل هذه القضية بالترجيح، فـ مسلم انفرد برواية ابن عباس بأربعة ركوعات في كل ركعة، وبرواية جابر بأنها ثلاثة ركوعات في كل ركعة، فكل هذا مما انفرد به مسلم عما اتفق عليه مع البخاري.
قال المؤلف رحمه الله: [ولـ أبي داود عن أبي بن كعب رضي الله عنه: (صلى فركع خمس ركعات وسجد سجدتين وفعل في الثانية مثل ذلك) ] .
وهذه الرواية دون الروايات الأولى المتفق عليها بين البخاري ومسلم، والتي انفرد بها مسلم، وهذه الرواية أخرجها أبو داود فتكون أنزل من التي قبلها.
ورواية الخمس أخذ بها العترة كما يقول الشوكاني.
فنخرج من هذا الخلاف ونقول: إن تعدد الركوعات قد جاءت به الروايات، وكلها لا يمكن أن تقاوم رواية (ركوعين) ، ولهذا أخذ الجمهور بأن صلاة الكسوف ركعتان، وأن في كل ركعة ركوعين.
وهناك من يرى الجمع ويقول: لا نلغي تلك الروايات كلها، ولكن ننظر إلى الحالة؛ لأن في الرواية الأولى لـ عائشة ولـ ابن عباس: (ثم انجلت الشمس) فإذا صلينا ولم تنجلِ، فبعض العلماء يقول: نطيل في الركوع إلى أن تنجلي أو نأخذ برواية الأربعة أو برواية الخمسة الركوعات حتى تنجلي؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى حتى انجلت، وحالات الكسوف ليست سواءً كما أشرنا، فقد يكون الكسوف جزئياً بسيطاً، وقد يكون كاملا مطبقاً.
وبعضهم يقول: بل نبقى على ما رجح وثبت، وهو ركوعان في كل ركعة، فإذا انتهت الركعتان بركوعين في كل ركعة وانجلت فالحمد لله، وإذا لم تنجلِ فلا نطيل ولا نعيد الصلاة من جديد، ولكن نلزم الاستغفار والدعاء والتسبيح وذكر الله سبحانه وتعالى، والله تعالى أعلم.