للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الشعر وإنشاده في المسجد]

قال المؤلف رحمه الله: [وعنه رضي الله عنه: (أن عمر رضي الله عنه مرّ بـ حسان ينشد في المسجد، فلحظ إليه، فقال: قد كنت أُنشِدُ فيه، وفيه من هو خير منك) متفق عليه] .

يقول: إن عمر رضي الله عنه مر بالمسجد، وعمر دائماً كان دقيق الملاحظة، فوجد حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه -وهو شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم وشاعر الإسلام- ينشد شعراً، فلحظ إليه، واللحظة من عمر ليست بالهينة، ففهم حسان فواجهه: بأن عليك ألا تلحظ ولا تهتم، وما علي منك، فقد كنت أنشد الشعر فيه -أي: في المسجد- وفيه من هو خير منك.

والذي هو خير من عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكن لـ عمر جواب، والحقُ يسكت.

وما هو الإنشاد الذي كان ينشده حسان في المسجد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إن المؤلف ساق هذا ليبين لنا أن المسجد لا يصلح لإنشاد الشعر، ولكن سيأتي التفصيل في الإنشاد الذي كان ينشده حسان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل هو الوصف والغزل والتشبيب والهجاء، أو هو شعر معين؟! لقد جاء الأثر بأن حسان رضي الله تعالى عنه قال: ائذن لي -يا رسول الله- بهجوهم -يعني: المشركين-، قال: كيف تهجوهم وأنا منهم؟! قال: أسلك منهم كما تسل الشعرة من العجين، ولا يلحقك من ذلك شيء.

قال: اهجهم.

فهجاهم، فنصب له كرسياً أو منبراً وقال له: اهجهم، فوالله لوقع كلامك عليهم أشد من وقع السهام في غلس الظلام.

فالسهم لما يأتي في النهار معلوم من أين أتى، أما في الليل فلا يعلم مصدر إتيانه، أمن يمين أو يسار، ولذلك لما تكلم أبو سفيان وهجا الرسول صلى الله عليه وسلم، رد عليه حسان قائلاً: ألا أبلغ أبا سفيان عني فأنت مجوف نخب هواء أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء فمن هو شر الفريقين ومن هو أخيرهم؟ لا شك أن المشرك شر الفريقين، وأن المسلم خير الفريقين، قال حسان: أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء لساني صارم لا عيب فيه وبحري لا تكدره الدلاء في أبيات عديدة امتدح فيها المسلمين وهجا المشركين، وخرج صلى الله عليه وسلم بقوله: شركما لخيركما الفداء.

وهذا -كما يقول نقاد الأدب- مأخوذ من القرآن، ولهذا القرآن عدّل في شعر الإسلاميين، فقوله: فخيركما لشركما الفداء، مأخوذٌ من قوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ:٢٤] ، وعلى هذا فـ حسان رضي الله تعالى عنه كان ينشد الشعر في المسجد النبوي أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم يؤيده ويقول: (اهجهم وروح القدس يؤيدك) ، وكان هجاء حسان على المشركين أشد من السهام في ليلة ظلماء.

إذاً فلا نقول: كل شعر ممنوع، ولا نقول: كل شعر جائز، فإذا كان الشعر لخدمة الإسلام والمسلمين -كهذا-، أو أنشد إنسان أبياتاً يظهر فيها ظلامته، أو أنشد شيئاً يمتدح فيه إنساناً فعل خيراً فذلك لا بأس به.

وربما يأتينا إنسان ويقول: ماذا تقولون في قول كعب بن زهير: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول متيم إثرها لم يفد مكبول وما سعاد غداة البين إذ رحلت إلا أغن غضيض الطرف مكحول أليس هذا غزل في سعاد؟! يقول نقاد الأدب الإسلاميون: إن افتتاح الشاعر قصيدته بالغزل الرفيع المستوى في غير معين يعتبر من باب التشويق وتوجيه الأذهان إلى الموضوع الأساسي؛ لأن الشاعر انتقل من ذكر سعاد إلى قوله: نبئت أن رسول الله أوعدني والعفو عند رسول الله مأمول وذكر صفات الناقة، وذكر غير ذلك، وانتهى إلى موضوعه بأنه يلتمس العفو من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هناك الغزل، وهناك النسيب، وهناك التشبيب، فهذه أنواع من أنواع الشعر الغزلي بصفة عامة، أو ما يتعلق بالنساء، فإذا كان الغزل في امرأة غير معينة كسعاد فكلمة (سعاد) عند الشعراء رمز لمجهول، كما يقولون في العصر الحاضر: الجندي المجهول، فهم يأتون بها كوصف لتهييج السامع إلى ما وراءه، فيسهل الانتقال إلى الموضوع المقصود والذهن قد تهيأ لتلقيه، وهو هنا الاعتذار عن تأخره في الإسلام، وأنه مخافة أن يهدر دمه، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأعلن إسلامه، وقبل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فهذا في الغزل، أما النسيب فهو في امرأة معينة بذاتها بأبيها وجدها، وأما التشبيب: فهو مأخوذ من شب يشب شبوباً وشباباً، تقول: شبت النار: أي: ارتفعت.

وتقول: الشباب قوة غريزة وفتوة، فكذلك التشبيب هو إثارة الغرائز بأوصاف خاصة بالنسوة، خاصة في ما تحت الثياب، فهذا محرم وممنوع، وكعب بن الأشرف ما قتل إلا لذهابه إلى مكة يستعدي قريشاً على المسلمين، وتشبيبه ببعض نساء المسلمين.

فالغزل من حيث هو إذا كان لغرض ينتقل منه إلى غرض مباح إسلامي شرعي، وليس فيه النسيب ولا التشبيب فلا غبار عليه، وعلى هذا فإنشاد الشعر في المسجد إن كان لغرض ديني فلا مانع، وإن كان لهوى نفس فممنوع، فـ عمر رضي الله تعالى عنه لما وسع المسجد بنى رحبة في الجهة الغربية، وقال: أيها الناس! من أراد الدين والآخرة فعليه بالمسجد لذكر الله، ومن أراد حديث الدنيا فليخرج إلى تلك الرحبة.

وبعض الروايات فيها: من أراد سوق الآخرة فليجلس، ومن أراد سوق الدنيا فليذهب إلى الرحبة.

وهذا في الكلام العادي فضلاً عن كونه شعراً.

والشعر من حيث هو جاء فيه الحديث: (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلئ شعراً) ، وسئلت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها -وهي التي يذكرها ابن رشيق العزي في عدة الأدب- عن الشعر؟ فقالت: الشعر كلام موزون حسنه حسن، وقبيحه قبيح.

والوزن لا يغير ولا يبدل في المعنى، إنما هو في الصناعة وجرس السمع، فإذا كان الشعر كلاماً حسناً فهو حسن، وهناك شعر الحكمة والمواعظ والتعليم ونظم العلوم، وإن كان نظم العلم ليس بشعر؛ لأنه لا يخاطب الشعور، بل يخاطب العقل، كألفية ابن مالك، والرحبية، والبيقونية، وغيرها، فهذا يسمى نظماً وليس شعراً.

وبالله تعالى التوفيق.