الأحوال التي يكون فيها النوم ناقضاً للوضوء
وقد تقدم لنا أن الجمهور يرون أن النوم مظنة النقض.
ومتى يكون الحكم بالنقض؟ قلنا: إنهم اختلفوا في صور النوم: فقد ينام الإنسان جالساً، وينام مضطجعاً، وينام نوماً خفيفاً، وينام نوماً عميقاً، والفرق بين الخفيف وبين العميق، أنه إذا رأى المنامات، وكان لا يشعر بمن حوله، أو كان بيده شيء فسقط منه، أي: أنه استغرق حسه عما في يده فهذا عميق، وقد أشرنا إلى أن القاعدة في ذلك تدور على: تحقيق المناط في وجود النوم، وأنهم أجمعوا على أن غيبة العقل بأي سبب آخر سوى النوم ناقض، فلو كان إنسان يغمى عليه، أو إنسان يخدر، أو إنسان يحصل له إغماء بسبب السكري - عافانا الله وإياكم- فإذا غاب العقل بأي أمر مشروع أو غير مشروع من مرض أو صحة فإنه يتوضأ لغيبة العقل؛ لأنه في غيبة عقله قد يحدث حدثاً ولا يشعر به، فوجب عليه أن يتوضأ، ومن هنا كان النوم كذلك، إذا تيقن أنه قد نام فيجب عليه أن يتوضأ.
وهذا الحديث يبين لنا أن النوم مظنة النقض وليس بناقض في ذاته؛ لأنه صلى الله عليه وسلم مثل الجوف بالقربة، والقربة يكون فيها الماء موكأ بالخيط، فإذا كان فم القربة مربوطاً فلن يخرج منها ماء ولو دحرجتها على الأرض، لكن إذا انفك هذا الوكاء وانفك هذا الرباط خرج ما في القربة ولم يبق فيها شيء، فكذلك شبه النبي صلى الله عليه وسلم العينين بوكاء السه، وهذا من بديع التشبيه، ونظائر هذا كثير عنه صلى الله عليه وسلم والسه -كما تقدم-: اسم لحلقة الدبر، والريح إنما يخرج من الدبر، فإذا كانت العينان مفتوحتان فالقربة مربوطة، فلا يخرج شيء من السه لأنه مربوط موكأ، ووكاؤه في العينين، لكن إذا نامت العينان واسترخت الأعصاب انفك الوكاء، فيمكن أن يخرج من السه شيء وهو لا يشعر به؛ لأنه في نوم.
ولذا قال الشافعي رحمه الله ومن وافقه: من نام نوماً عميقاً وهو جالس، وكان متمكناً في جلسته، وحلقة الدبر مباشرة للأرض أو على عقبه، أو على رجله، وكان متأكداً من أنه لا يمكن أن تخرج منه ريح، فإن نومه لا ينقض الوضوء؛ لأنه إذا انفك وكاء العينين فهناك وكاء آخر وهكذا، وقوله: (العين وكاء السه) هذا في غير الأنبياء؛ لأنه صلى الله عليه وسلم -كما أشرنا سابقاً- جاء عنه أنه صلى من الليل، ثم أوتر، ثم اضطجع فنام حتى نفخ، ثم قام لصلاة الصبح، فصلى ولم يتوضأ، فقالت له أم المؤمنين عائشة: أتصلي وقد نمت ولم تتوضأ؟ قال: (يا عائشة! تنام عيناي ولا ينام قلبي) فإذا استطلق وكاء العينين وجد وكاء القلب؛ لأنه ما دام القلب يقظاً لم ينم فإنه إذا حدث شيء يشعر بذلك ويدرك، بدليل أنه صلى الله عليه وسلم أحياناً يقوم من الليل فيتوضأ كما في حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في مبيته عند خالته ميمونة؛ فذكر أنه نام على عرض الوسادة، فقام صلى الله عليه وسلم من الليل وذكر الله ومسح وجهه، وقام ودخل الخلاء، فقام ابن عباس وجاء بإداوة الماء ووضعها عند بيت الخلاء، فلما خرج وجد الماء، قال: من وضع هذا؟ قالت له: الغلام - تعني: ابن عباس - قال: (اللهم! فقه في الدين) .
فقيل لـ ابن عباس: لم وضعت الماء؟ قال: لأن الذي يدخل الخلاء ثم يخرج يحتاج إلى وضوء، فلابد أن يكون الماء جاهزاً.
وهذا من الفقه والاستنباط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم! فقه الدين وعلمه التأويل) فتوضأ صلى الله عليه وسلم.
إذاً: هو ينام صلى الله عليه وسلم، وفي نومه قد ينتقض الوضوء وقد لا ينتقض، فإذا ما انتقض الوضوء فإنه يدرك ذلك؛ لأن قلبه لا ينام، وجاء في بعض الروايات: (وهكذا الأنبياء) ومن هنا كانت منامات الأنبياء وحياً؛ بدليل قول الله عز وجل حاكياً عن الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أنه قال لإسماعيل: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات:١٠٢] ولم يقل له: افعل ما رأيت في المنام، بل قال: ((افعل ما تؤمر)) فاعتبر إسماعيل عليه السلام منام أبيه أمراً من الله، ولهذا فإن الشيطان لما جاء وقال: يا إبراهيم! تأن، أتذبح ولدك على رؤيا منام؟! انتظر حتى يأتيك الوحي جهاراً عياناً.
أخذ إبراهيم الحصباء وحصبه، وقال: اخسأ يا لئيم! إنه أمر الله، ومن هنا شرع رمي الجمرات.
فهنا إبراهيم عليه السلام اعتبر الرؤيا وحياً، وكذلك إسماعيل عليه السلام اعتبرها وحياً، وهكذا رؤيا الأنبياء.
وعندنا درجة نازلة قليلاً: كان صلى الله عليه وسلم مدة تحنثه في الغار ستة أشهر، يرى الرؤيا فتأتي في النهار كفلق الصبح، يعني: إذا رأى بأن خمسة رجال مروا عليه يمر عليه خمسة لا ستة ولا أربعة، وهكذا، فجاء مثبتاً في رواية أخرى وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو تُرى له جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة) فقالوا: هذا التحديد الحسابي الهندسي: واحد من ستة وأربعين، لماذا ليس من ثمانية ولا من عشرين؟ قالوا: لأن مدة تحنثه صلى الله عليه وسلم في الغار بالنسبة إلى مجموع مدة الرسالة جزء من ستة وأربعين، وكان مدة تحنثه يرى الرؤيا فتأتي كفلق الصبح؛ لأن مدة الرسالة ثلاث وعشرون سنة: ثلاث عشرة سنة منها في مكة وعشر سنوات في المدينة، ومدة التحنث كانت ستة أشهر، وستة أشهر نصف سنة، وأنصاف الثلاث والعشرين تكون ستة وأربعين نصفاً، ولذا كان صلى الله عليه وسلم بعد أن يصلي الصبح يقول أحياناً: (أيكم رأى البارحة رؤيا؟ فكان من رأى رؤيا واستحسنها قصها على رسول الله صلى الله عليه وسلم) .
وقوله: (العين وكاء السه، فإذا نامت العينان استطلق الوكاء) وهذا -كما تقدم- يدل على أن النوم المستغرق ناقض للوضوء، أي: مظنة للنقض؛ لأنه في تلك الحالة قد يحدث ولا يشعر بشيء.
هناك جزئية صغيرة لم نتعرض لها هناك، وهي في قوله: (العين وكاء السه) يبحث العلماء في أن ما خرج من السبيلين ناقض للوضوء، ومما يخرج الريح، والريح تخرج من الدبر، فلو خرجت الريح من القبل هل يكون خروجها ناقضاً للوضوء أو لا؟ فقالوا: القُبُل ليس موضعاً للريح؛ لأن الريح غازات تفاعلت في المعدة وخرجت عن طريق القولون وعن طريق السه، لكن القُبُل متصل بالمثانة، والمثانة عبارة عن كيس لا تتصل بالمعدة في تفاعل ولا في شيء، فقال بعضهم: الريح من القُبُل لا عبرة بها، وقال بعضهم: إن كان من المرأة فهو ناقض، وإن كان من الرجل فلا؛ لصلة قُبل المرأة بالرحم وكذا.
إلخ، والجمهور على أنه ليس له اعتبار؛ لأنه غير متصل بالجوف.
والشافعية لهم تفصيلات عديدة في هذا.
والله تعالى أعلم.