[الخلاف في حكم صيام الست من شوال]
وهذه الأيام من العلماء من يستحب صومها، ومنهم من يكره صومها، وقد روي كراهية صومها عن مالك رحمه الله تعالى، وذكر القرطبي عن أبي يوسف أنه كره صومها، وذكر الشوكاني عن أبي حنيفة رحمه الله أنه كره ذلك، والتحقيق عند الأحناف وعند المالكية: أن الكراهية ليست في الصوم، ولكن في التتابع، كما قال مالك رحمه الله: إذا رأى الجهال إصرار العلماء على صوم ستة أيام من شوال عقب رمضان فسيظنون أنها من رمضان، ويقول القرطبي: إن ما خاف منه مالك قد وقع في بلادنا، ونحن أيضاً شاهدنا هنا أن بعض الناس إذا انتهى من رمضان وجاء العيد عيّد عيداً شكلياً، واستأنف الصيام ستة أيام ثم عيّد العيد الكامل وقال: عيد الست، فجعل للست عيداً مستقلاً، وابن عبد البر في الاستذكار يدافع عن مالك ويقول: لا أعتقد أن مالكاً يكره عبادة، ولكن لعله لم يبلغه حديث أبي أيوب، ثم يرجع ويقول: إن هذا الحديث حديث مدني، وقلّ أن يخفى على مالك حديث مدني، ثم يقول أيضاً: لقد روي هذا الحديث عن عمرو بن ثابت، عن أبي أيوب وتفرد به فلان وهو ضعيف، ولكن قد روي هذا الحديث من عدة جهات، ومن عدة طرق، وفي النهاية صحح الحديث ثم قال: بما أن الحديث لا يمكن أن يخفى على مالك؛ لأنه مدني، فيكون سبب الكراهية عنده هو خشية أن يعتقد الجهال أن ستاً من شوال تابعة لرمضان ولازمة له، ولهذا يقول المالكية جميعاً: إذا أتبع الست بعد رمضان ولم يفصل بينها إلا يوم العيد فقط فهذا محل النزاع وهذا محل الكراهية، أما إذا باعد بينها وبين رمضان بعدة أيام وفرقها فإنه يخرج عن المحذور ولا يظن ظان أنها من رمضان.
هذا مع اتفاق العلماء على أن تلك الست من شوال يصح صومها في العشر الأوائل من شوال، أو في العشر الوسطى، أو في العشر الأخيرة، أو يأخذ يومين من كل عشر سواء تابعها أو فرقها، المهم عند المالكية ألا تكون لاصقة برمضان مباشرة، لا يفصل بينها وبين رمضان إلا يوم العيد.
وهكذا علل الأحناف، وذكر ابن عقيل في حاشيته أن إطلاق الكراهية التي نقلت عن أبي حنيفة وأبي يوسف ليس صحيحاً، وإنما الكراهية التي نقلت عن أبي حنيفة، وعن أبي يوسف إنما هي طبق الكراهية وسببها هو الذي نقل عن مالك رحمه الله، ألا وهو إلصاق ست من شوال برمضان حتى يظن الجهال أنها منه، أما مطلق صومها بدون الصورة التي توهم أنها من رمضان أو من لوازمه، فهذه ليس فيها كراهية، وعامة السلف عليها، والعمل جارٍ على هذا عند الأحناف وكذلك عند المالكية.
وننبه الإخوة أننا كنا قد جمعنا عمل أهل المدينة المذكور في الموطأ بناءً على كتاب محمد بن الحسن الحجة على أهل المدينة، وكان يحتج عليهم في تمسكهم بما آثروه نقلاً عملياً عن أهل المدينة؛ لأن مالكاً ذكر في الموطأ وقال: إن الستة أيام من شوال لم أر أحداً من أهل العلم يصومها.
ولهذا علل الكراهية بما تقدم، فهي من نقل مالك عن عمل أهل المدينة، ولما قمت بجمع مسائل عمل أهل المدينة في الموطأ زادت على الثلاثمائة مسألة، ثم عرضتها على بقية المذاهب الأربعة، أي: المذاهب الثلاثة مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد، فوجدتها كلها لم ينفرد بها مالك إلا في ثلاث مسائل فقط، وكلها قال فيها: هذا ما عليه العمل ببلدنا، هذا ما أدركت عليه أهل العلم عندنا، هذه السنة القائمة عندنا، ولم يذكر حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا خبراً عن صحابي، وإنما يذكر ما شاهده من عمل أهل المدينة في زمنه أو نقل إليه.
وتلك المسائل الثلاث التي لم أجد من يوافقه عليها هي: المسألة الأولى: فيما يتعلق بصوم الستة أيام من شوال أنه كان يكرهه، والمذاهب الثلاثة -قبل أن أقف على مذهب أبي حنيفة - كلها تستحب ذلك، فظننته انفرد بها، ولكن وقفت على قول القرطبي وقول الشوكاني ينقلان عن أبي يوسف وعن أبي حنيفة رحمهما الله أنهما وافقا مالكاً في هذا، فخرج عن كونه انفرد بها.
والمسألة الثانية: قوله بصوم يوم الجمعة، وأن أهل العلم يتحرون صومه، والذي كنا نعرفه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يفرد يوم الجمعة بصوم، أو تفرد ليلة الجمعة بقيام، ثم وجدنا في الاستذكار لـ ابن عبد البر أنه ذكر نصوصاً عديدة فيما يتعلق بصوم يوم الجمعة، حتى ذكر عن ابن عباس من طريق طاوس وعطاء، أنهما لم يريا ابن عباس مفطراً يوم الجمعة قط، وذكر آثاراً أخرى، فيكون إسناد مالك صوم يوم الجمعة إلى عمل أهل المدينة قد وجد له مستند عن ابن عباس وغيره، وجاء ذلك مرفوعاً من طريق علي رضي الله تعالى عنه: (أن من صام ثلاثة أيام فليجعل فيها يوم الجمعة، أو صوموا من كل شهر ثلاثة أيام، وصوموا يوم الجمعة) إلى غير ذلك على ما سنأتي عليه إن شاء الله.
والمسألة الثالثة: عند مالك أن من قتل عمداً لا يدفع الدية وإنما عليه القصاص أو يعفو عنه أولياء الدم؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل فيه أحد أمرين: إما القصاص، وإما العفو كما قال تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:٤٥] ، فقال مالك: ليس على القاتل عمداً أن يدفع دية، وليس لولي الدم إلا أن يقتل، أو يعفو.
وكنت قد سمعت والدنا الشيخ الأمين يقول في هذه المسألة: إن ولي الدم إذا قال: أنا لا أريد قصاصاً وأريد الدية، فإن جمهور العلماء يقولون: عليه أن يدفع الدية ويستبقي نفسه.
ولكن وجدنا في مذهب مالك ثلاث روايات عنه فيما إذا كانت الجناية في غير النفس، في اليد أو في السن أو في العين، يقول مالك: هو مخيّر بين أن يدفع أرش الجناية، وبين أن يسلم نفسه ليقتص منه، فهنا خرج عن كونه يقول: ليس لهم إلا القصاص، فكذلك إذا كان في النفس يتعين على الجاني أن يدفع الدية ليبقي نفسه.
وهذا الذي سمعته من والدنا الشيخ الأمين: أنه يلزم مالكاً أن يقول: إن من قتل عمداً وطلبت منه الدية فعليه أن يدفعها؛ لأن الله تعالى يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء:٢٩] ، وهذا توجه إليه القتل ووجد طريق العفو بالدية فيلزمه أن يدفع الدية، ثم وجدنا هذا القول بعينه عند أبي حنيفة رحمه الله.
وبهذا أيها الإخوة! يكون كل ما سجله مالك رحمه الله في الموطأ من مسائل عمل أهل المدينة لم ينفرد ولا بواحدة منها، ويكون قد انتهى ما كنا نظنه أنه انفرد به، وقد سجلنا ذلك في الرسالة التي جمعناها وطبعناها، ولكن لزم التنبيه على أنه لم تبق مسألة انفرد بها مالك فيما ذكره من عمل أهل المدينة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر) ، وهذا على ما تقدم بيانه من أن الحسنة بعشر أمثالها؛ فالشهر بعشرة أشهر، والستة أيام بستين يوماً أي: بشهرين، فذلك تمام السنة، وهو تمام الدهر فيما إذا عاش وفعل ذلك كل سنة.
ويلتمس العلماء سبب ربط الستة الأيام من شوال برمضان فيقولون: إن من كان يصوم رمضان إيماناً واحتساباً ورغبة ومحبة فإنه لا يستكثر على نفسه أن يواصل صوم ستة أيام من شوال وكأنه يدلل على أن صومه الثابت ليس عن إكراه، وليس عن كراهية، وإنما عن رغبة وهاهو يواصل صوماً نافلةً بعد رمضان، والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.