[حديث أبي سعيد الخدري في زكاة الفطر]
قال المؤلف: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كنا نعطيها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم صاعاً من طعام أو صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير أو صاعاً من زبيب) ] .
قول أبي سعيد رضي الله عنه: (كنا نعطيها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم) ، أي: وهذا هو زمن التشريع؛ لأنه بإشراف وتوجيه من النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يصلح آخر الأمة إلا بما صلح عليه أولها، وهذا من ميزة المدينة وسكانها زمن النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده؛ لأنهم يأخذون مباشرة عن رسول الله، أو يعملون ويقرهم على عملهم رسول الله، ثم بعد ذلك خلفاؤه الراشدون، ثم بعد ذلك التابعون لهم بإحسان، وهلم جرا.
فهنا يذكر الشعير مع الحنطة (الطعام) ، وأنه يخرج منها صاع، إذاً: هذا العمل يخالف ما رآه معاوية، ولكن لا ينبغي أن نكثر القول على معاوية؛ لأنه لم يقل: (سمعت رسول الله) فيتعارض مع قول أبي سعيد أو مع قول غيره، وإنما قال: (أرى) ، وما دامت القضية قضية رأي، والرأي متبادل إما قبلتموه أو رفضتموه، فإذا وجدتم غيره أفضل فأنتم ترفضونه، وقد وجدنا هذا الأثر عن أبي سعيد، وأثبت أنه كان يعطي زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعاً من البر الذي يرى معاوية أن نصف الصاع منه يجزئ، وهذا كاف في رد الرأي الذي رآه معاوية بما ذكره غيره مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
قال المؤلف: [وفي رواية: (أو صاعاً من أقط) قال أبو سعيد: أما أنا فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولـ أبي داود: لا أخرجه أبداً إلا صاعاً] .
هذا الأسلوب له دلالته البلاغية، يقول: (أما أنا) ، أي: أنا أتحدث عن نفسي، إذاً: هناك من يتحدث عن غيره.
أما قوله: (أما أنا) فهو رد على رأي معاوية لأنه يقول: أنا أرى أن نصف صاع من البر يكفي، أي: فأنت ترى نصف صاع من البر يكفي (أما أنا فلا أزال أخرجها كما كنت أخرجها زمن النبي صاعاً) .
إذاً: نعلم من هذا الأسلوب (أما أنا) بأن هناك رأياً مقابل رأي، وهذا المقابل مغاير، إذاً: تقابل رأي برأي، وأحد الرأيين مجرد رأي واجتهاد، والرأي الثاني مبني على العمل الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإذاً: لا شك أننا نأخذ برأي أبي سعيد الخدري، وهذا لم يعد رأياً، بل أصبح قولاً ينقله وخبراً يسوقه إلينا، كأنه يقول: لا تأخذوا برأي معاوية؛ لأننا كنا زمن النبي صلى الله عليه وسلم نخرج صاعاً، لكن تأدباً مع ولي الأمر معاوية فلا ينبغي أن يجابه بهذه الصيغة ولا بهذا الأسلوب، ومن أساليب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون بالحكمة والموعظة الحسنة.
فكأنه قال: يا معاوية! لك رأيك، ويا من أخذتم برأيه لكم آراؤكم، ولكن أنا في خاصة نفسي، ولا أملك إلزاماً عليكم، ولا أطاوعكم فيما أعتقد خلافه.
إذاً: هذا المنهج يعطينا طريقة المغايرة، وطريقة الإنكار بأدب وبحكمة دون تجريح أو مجابهة، فقال: أما أنا، أي: في حد نفسي، والذي يريد أن يأخذ بكلامي فهو حر، والذي يريد أن يأخذ برأي معاوية فهو حر.