[نعي النبي صلى الله عليه وسلم النجاشي وصلاته عليه]
نأتي إلى الحديث الثاني وهو (أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي لأصحابه في اليوم الذي مات فيه) وعرفنا بأن نعي النبي صلى الله عليه وسلم، إنما هو مجرد الإعلام ولا شك، والنجاشي كان في الحبشة وهم بالمدينة، لا توجد هواتف ثابتة ولا جوالة ولا وسائل إعلام حديثة، لم يكن إلا الوحي، ولم يكن إلا المعجزة، كما وقع من النبي صلى الله عليه وسلم، أو ما يقع لبعض صالحي الأمة، كما وقع لـ عمر حين قال: (يا سارية الجبل) وإن كان بعض الناس، يطعن في هذه القصة وفي الرواية ويرتب عليها أشياء لا طائل تحتها، بل قالوا: النبي صلى الله عليه وسلم كشف له ما بينه وبين الحبشة.
نقول: الرسالة والنبوة والأمور الغيبية، لا نتدخل فيها، ويكفي أن نثبت الخبر، وقد جاء في غزوة مؤتة، وكان ثالث الأمراء ابن رواحة وذلك لما أرسل صلى الله عليه وسلم جيشاً قوامه ثلاثة آلاف، وأميرهم زيد بن حارثة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن أصيب: فـ جعفر بن أبي طالب، فإن أصيب فـ عبد الله بن رواحة، فإن أصيب فليختر المسلمون رجلاً منهم) ثم كشف الله له عن سير المعركة في يومها، فجلس على المنبر ثم قال (أخذ الراية زيد فأصيب، ثم قال: أخذ الراية جعفر فأصيب، ثم قال: أخذ الراية عبد الله وصمت، فلما صمت شك أو توهم الأنصار أنه وقع بـ ابن رواحة ما يكرهون، ثم أعاد وقال: أخذ الراية عبد الله بن رواحة فأصيب) فكان أشد إيلاماً على الأنصار في هذه الواقعة.
فهنا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن الذي أخذها أصيب ثم أخذها فلان، وجاء في ترجمة ابن رواحة أيضاً، وفي قصة مؤتة أن رجلاً جاء بخبرهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن شئت أخبرتنا، وإن شئت أخبرتك بالواقع، قال: أخبرنا يا رسول الله! فذكر له ما وقع بالفعل، فقال: والذي بعثك بالحق: ما غيرت حرفاً واحداً مما وقع، ثم قال صلى الله عليه وسلم: الآن أخذ الراية سيفٌ من سيوف الله ألا وهو خالد بن الوليد يفتح الله عليه أو يفتح الله إليه) يهمنا بأن الله سبحانه وتعالى يفعل لرسوله ما يشاء، وقد يلهم إنسانٌ عن أمر بعيد عن الواقع، ويكون حقاً، هذه أمور بعيدة عن الحس، وليس للعقل فيها تحكم، ولكن الأمر للواقع الفعلي.
فهنا نقول: نعى النبي صلى الله عليه وسلم النجاشي لأصحابه -أي أعلمهم بموته- والنجاشي كما يقولون، لقب مُلك، وليس لقب شخص، فكل من حكم الحبشة يسمى (نجاشي) .
وكان نجاشي الحبشة آنذاك اسمه أصحمة وقيل بالحبشية معناه: عطية، وقيل: ألفاظٌ أخرى، وقيل: كل من ملك الروم قيصر، وكل من ملك الفرس كسرى، وكل من ملك القبط في مصر فرعون، وكل من ملك مصر في غير القبط يسمى العزيز وكل من ملك اليمن يسمى تبعاً، وهكذا ألقاب للملوك وليس للشخص بذاته.
فـ النجاشي في ذلك الوقت كان لقب ملك الحبشة، فمن كان قبله يسمى نجاشياً، ومن كان بعده يسمى نجاشياً، كما هو معروف عند الناس في كسرى وقيصر.
بقي عندنا ما يتعلق بإخباره صلى الله عليه وسلم عن هذا النجاشي في ذلك الوقت، تجدون في منتقى الأخبار مع شرح نيل الأوطار تأتي روايات (مات اليوم رجلٌ صالح بالحبشة) وفي رواية أخرى (إن أخاكم النجاشي قد مات) فوصفه بأنه كان رجلاً صالحاً، وسماه أخاهم.
وكونه يخرج ويصلي عليه، فهل النبي يصلي على مسلم أم على غير مسلم؟ هذا أكبر دليلٍ على أن النجاشي رضي الله تعالى عنه أسلم وآمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد نذكر ما كان من شأنه في السيرة النبوية، بأن النبي صلى الله عليه وسلم في سنة تسع لما اشتد الأمر على المسلمين بموت عمه وبموت زوجه خديجة رضي الله عنها، وكانت تسمى سنة الشدة، أو عام الحزن، واشتد حزنه صلى الله عليه وسلم، وتجرأ عليه بعض من كان لا يتجرأ في حياة عمه، وخرج إلى الطائف ثم رجع ثم قال لأصحابه (إن بالحبشة ملكاً عادلاً، أرى أن تهاجروا إليه لا يضام أحد في جواره) فقال: (ملكاً عادل) لأنه آنذاك، لم يبلغه خبر رسول الله، وفرقٌ بين كلمة (عادل) وبين (عدل) ؛ لأن العادل الذي يعدل في حكمه ويعادل بين المتساويين، وذلك مأخوذ من العِدْلة، والعِدْلة هي ما يكون في أحد شقي البعير، عِدلة عن اليمين وعِدلة عن اليسار، فإن تعادلت العدلتان في الوزن والثقل، وكان الحمل معتدلاً استراح البعير، وإن كانت إحدى العدلتين ثقيلة مال وكان البعير تَعِباً في هذا الحمل.
فالعادل يصدق على كل من عدل في الحكم، وكما هي كلمة عمر رضي الله تعالى عنه: لما بلغه أن عامله في مصر، أخذ دار امرأةٍ حينما أراد أن يبني الفسطاط، وجاءت واشتكت إلى عمر إلخ، كتب إليه كلمة ونصف فقال: (نحن أحق بالعدل من كسرى) المرأة تعجبت، هذا صاحب الهيمنة وصاحب كذا، يعطي هذه الرقعة وفيها هذه الكلمة، ماذا عساها أن تجدي؟!! وكانت تستثقل رحلتها من وإلى مصر، فلما وصلت وأعطتها إياه، وضعها على رأسه، وأمر العمال أن يهدموا كل ما بنوه على أرض المرأة، وأمر أن يقيموا لها بيتها على أحسن ما كان، قالت: واعجباً أميرهم هناك، وبهذه الرقعة يفعل كذا، والله هؤلاء الناس على حق!! وأسلمت! فنحن يهمنا قوله: (نحن أحق بالعدل من كسرى) .
إذاً: العدل صفة في الملك لمن أراد دوام ملكه، ويقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: (الملك يدوم مع العدل ولو لكافر، ولا يدوم مع الظلم ولو لمسلم) .
إذاً ملكٌ عادل: وهذا من عقلاء الملوك، فأشار النبي على أصحابه بالهجرة، فهاجروا إليه، فلما هاجروا أرسل أهل مكة بعد بدر للذين هاجروا إلى الحبشة ليثأروا لقتلى بدر، وأرسلوا عمرو بن العاص وكان من دهاة العرب وصديقاً للنجاشي في ذلك الوقت، أرسلوه بهدايا، فجاءه وسجد له على ما كان يتعامل معه، وقال: يا أيها الملك! إن أُناساً منّاً فارقوا ديننا ودين آبائهم، ولجئوا إلى بلادك وليسوا على دينك، وقد أرسلنا قومهم إليك لتردهم إلى قومهم، فقال: ما كان لي أن أرد قوماً اختاروني على غيري حتى أدعوهم وأسمع ما عندهم، وأعرف ما لديهم، فدعاهم، وكان جعفر رضي الله تعالى عنه، هو خطيب القوم.
وقال: لا يتكلم أحدٌ غيري، فلما دخلوا على النجاشي وعمرو بجانبه، لم يسجد للملك، فقال: انظر! لم يسجدوا لك كما نسجد، -بأسلوب فيه إثارة- فقال النجاشي: ما لك لا تسجد كما يسجد القوم؟ قال: أيها الملك! نحن لا نسجد إلا لله، قال: وما ذاك، قال: كنا في جاهليةٍ جهلاء يأكل قوينا ضعيفنا، ونأكل كذا، ونفعل كذا -وعدد المنكرات- ثم قال: فبعث الله فينا رجلاً منا نعرف نشأته ومولده ونسبه، وصدقه وأمانته، فأمرنا بعبادة الله وحده وبالصدق، وبالأمانة وصلة الأرحام و.
و.
إلخ.
وجد النجاشي كلاماً حسناً، كما قال دريد بن الصمة لما أرسل ولده من الطائف إلى مكة انزل وأتني بخبر هذا الرجل، فرجع إليه وقال: والله إنه ليأمر بالصدق وبأداء الأمانة وصلة الأرحام وكذا وكذا، قال: والله يا بني! إن لم يكن ديناً فهو مكارم الأخلاق.
فهذا قول رجل جاهلي، فكذلك النجاشي سمع كلاماً حسناً فغاظ عمرو بن العاص، وقال: اسأله ماذا يقولون في مريم وابنها عيسى.
انظروا يا إخوان! الأعداء كيف يكيدون للمسلمين، وكيف يثيرون الشبه، ليحرضوا عليهم أعداءهم، فسأله، فقال: أيها الملك! نقول ما قال الله فيه، قال: وماذا يقول الله فيه؟ فقرأ عليه مطلع سورة مريم ثم قال: نقول فيه: إنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم.
إلخ.
فما كان من النجاشي إلا أن أهوى إلى الأرض، وأخذ عوداً ثم قال: والله ما زاد صاحبكم على عيسى ومريم مثل هذه القشة على ما جاء في التوراة والإنجيل.
ومن هناك دخل الإيمان في قلب النجاشي، ثم قال لبطارقته: ردوا عليهم هداياهم، لا حاجة لي في هداياكم -أي: هدايا كفار قريش-، فإن الله لم يأخذ مني الرشوة على أن رد لي ملك أبي، وكانت له قصة مع أبيه ومع أخيه، ثم قال لـ جعفر وأصحابه: سبحوا في بلادي لا يؤذيكم أحد، من اعتدى عليكم كأنه اعتدى عليّ، فصاروا آمنين.
بعد فترة فإذا بـ عمرو يأتي إلى النجاشي مرةً أخرى، ويدخل رجل مُرسَل بكتاب من رسول الله إلى النجاشي، يشكره على ما صنع بالمسلمين، فذهب عمرو مع أصحابه ودخل على الملك، أو كانوا فروا من مكة لما سمعوا بالنصر في بدر، ولما سمعوا بظهور الإسلام، قالوا: نذهب عند النجاشي ليس لنا طريق إلا هو، ضاقت بنا الأرض، واجتمع عدد من الصحابة فراراً بالإسلام عند النجاشي يعيشون في ظل ملكه، فرأى عمرو هذا الرسول، فدخل على النجاشي وقال في نفسه: (لئن طلبت هذا الرجل من النجاشي أضرب عنقه، لرأت قريش أني صنعت شيئاً) ، فدخل على النجاشي، وقال: أيها الملك! أطلب منك أن تعطيني هذا الرجل أضرب عنقه، لترى قريش أني فعلت لها شيئاً! يقول: فما كان منه إلا أن صكني على وجهي، حتى سال الدم من أنفي ولطخ ثيابي، ثم كأنه أسف على ذلك، ثم قال: أتطلب مني رسولَ رسول الله الذي يأتيه الناموس من السماء، قال: أيها الملك! أتعلم بأنه رسول الله؟ قال: يا عمرو! والله إنه لرسول الله، ولينصرنه الله كما نصر موسى وعيسى قال: يا أيها الملك! أتبايعني على الإسلام له، قال: نعم، فبسط النجاشي يده وب