[قوله: (وشر الأمور محدثاتها)]
قوله: (وشر الأمور محدثاتها) .
إذا جئنا إلى اللفظ الأول فإنه إذا كان خير الهدي هدي محمد صلوات الله وسلامه عليه، فمفهومه أن شر الأمور ما خرج عن هدي محمد، كما جاء: (كل أمرٍ ليس عليه أمرنا فهو رد) ، أي: مردود، ولكن هنا يأتي بالمعنى المفهوم صريحاً فيقول: (وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها) .
والأمور جمع أمرٍ، ويجمع على (أمور) لا على (أوامر) ؛ لأن كلمة (أمر) تجمع على (أمور) وهي الآحاد من الأحداث والوقائع، وتجمع على (أوامر) ، وهي صيغ (افعل) : (اكتب واجلس واقرأ وأحفظ) ، فكل هذه أوامر.
فمعنى الأمور هنا: أحداث الحياة.
و (محدثاتها) : مأخوذة من أصل المادة: (حدث) ، والحدث والإحداث يقال: شيء حادث، بمعنى: استجد بعد أن لم يكن، فشر الأمور بدون استثناء هي محدثاتها؛ ولكن يبنغي أن يعلم أن هذه الأمور المستحدثات التي هي شر كائنة في مقابل الهدي، أي: الأمر الديني الذي يترتب عليه ثوابٌ أو عقاب.
فيقول هنا: (شر الأمور محدثاتها) ، فلا يدخل تحت هذا الشر من المستحدثات ما كان من شئون الدنيا، وما كان لأهلها، فقد استحدثت صور عديدة في الحياة في المآكل والملابس والمشارب والمراكب {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل:٨] وجاءت أدوات ومستحدثات وصور أحدثها الإنسان استجابة لتطور الحياة، فلا يقال: تلك المستحدثات شرٌ لأنها داخلة في عموم (شر الأمور محدثاتها) ! إذ ينبغي أن يراعى أنه جاء اللام في (الأمور) في مقابل قوله: (وخير الهدي هدي محمد) ، أي: في الدين.
وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم ما يوضح ذلك غاية الإيضاح، وذلك في قضية تأبير النخل لما رآهم يؤبرون النخل بقلع الذكر، وقال: (لمَ تفعلون؟ قالوا: لأن يلقح.
قال: إن أراد الله لكم شيئاً جاء، فتركوا التلقيح في ذلك العام، فجاء النخل كله بثمرٍ شيص -أي: ليس ملقحاً- فلما قالوا له: يا رسول الله! تركنا وكان كذا قال: أنتم أعلم بأمر دنياكم) ، فأمور الدنيا لا تدخل في باب البدع، حتى اللباس، فلكل إنسان أن يلبس على طريقته ما لم يكن شعاراً خاصاً بغير المسلمين، كربط الزنار الأحمر الذي يشده أولئك الرهبان والقساوسة على وسطهم.
وكذلك القبعة التي هي شعار للنصارى أو لغيرهم، فهذا شعارٌ لهم لا ينبغي لمسلم أن يتزين به، أما بقية أنواع الأزياء، أو أنواع المآكل أو المشارب فجائز ما لم يكن في محرم، كأن يستعمل أواني الذهب والفضة، فذلك ممنوع.
وعلى أي طريقة جلس فلا مانع، سواءٌ جلس على مائدة أو على خوانٍ في الأرض، فكل ذلك لا حرج فيه، فقوله: (وشر الأمور محدثاتها) منصبٌ على من أحدث في الدين ما ليس فيه.
ولهذا جاء عن إمام دار الهجرة رحمه الله مالك بن أنس قوله: (ما لم يكن ديناً في أول الإسلام لن يكون ديناً في آخره) ، ويقول: (لا يصلح آخر هذه الأمة إلا على ما صلح عليه أولها) .