[تاريخ المنبر النبوي]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [عن عبد الله بن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على أعواد منبره: (لينتهينَّ أقوامٌ عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين) ] .
يسوق المؤلف رحمه الله تعالى عن هذين الصحابيين الجليلين أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لينتهين أقوام) ، وكان يمكن أن يأتي الحديث على صورة أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لينتهُنَّ) ، ولكنهما أتيا بصورة مصورة مشخصة، حتى لكأن السامع ينظر إلى صورة إلقاء الرسول صلى الله عليه وسلم فيها على المنبر، فأتيا بهذه الصورة المجسمة أمامنا وكأننا في حمى منبر رسول الله، أو بجواره نصغي السمع إليه صلوات الله وسلامه عليه.
وهذا الأسلوب من أساليب التأكيد والتوثيق؛ ليوثقا للسامع أنهما سمعا وضبطا الحديث بملابساته واقعاً وفعلاً، فليس هو مجرد سماع أو نقل عن غيرهم، بل هو سماع مباشرٌ على أعواد منبره، أي: أنه قاله في جمع من المسلمين ملتفين حول المنبر، فكان هذا مشهوراً متواتراً عظيم الشأن سمعه الجميع.
وقولهما: (على أعواد منبره) تحقيق للواقع أيضاً؛ لأن المنبر أول ما صنع من أعواد، وكما جاء في تاريخ المنبر أنه صنع في السنة الثامنة من الهجرة بعد وقعة خيبر، وكان من شأنه أيضاً أنه كان مدرسة، فهذا المنبر صدر عنه ما لم تصدره أعظم منصة جامعية في العالم، فكم من قضية عالجها رسول الله على المنبر، وقد كان صلوات الله وسلامه عليه إذا حزب أمرٌ أو استجد أمرٌ قال: (احضروا المنبر) فيحضرون إليه.
وقد صعد صلى الله عليه وسلم على المنبر، وقام للصلاة ثم ركع وهو على الدرجة الثالثة، ثم نزل القهقرى فسجد سجدتين، ثم رجع إلى المنبر، وهكذا، ثم قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) ، فاستخدم المنبر منصة لتعليم الناس كيفية الصلاة، وهي أهم شيء في الدين، وهكذا كثيرٌ من القضايا، وكنت أتمنى أن أجد طالب علم جامعي يتتبع قضايا المنبر النبوي وما عولج عليه من قضايا، فيقدمها إلينا أثراً لهذا المنبر الشريف.
ويكفي في تاريخه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتكئ أو يستند على جذع من جذوع النخل؛ لأن المسجد في أول بنائه قبل أن يجدد في السنة السابعة كان من جذوع النخل وجريده، فكان بعض أجزائه في القبلة يستند إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان يطوّل قيامه جاءت امرأة من الأنصار وقالت: يا رسول الله! إن لي غلاماً صناعاً -أي: نجاراً- ائذن لي أن آمره فيصنع لك منبراً تجلس عليه وأنت تخطب فأذن لها، وفي مدة ثمان سنوات ما خطر على بال أحد أن يصنع منبراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك لكونه طلباً لنفسه، فمجيئه من غيره أفضل، فذهب الغلام وأخذ أعواداً من الغابة بالمدينة، وجاء وصنع المنبر من أعواد، وكان ثلاث درجات، درجة يصعدها، ودرجة يقف عليها، ودرجة يجلس عليها، وهكذا ظل المنبر إلى أن احترق في حريق المسجد الأول، وبالله تعالى التوفيق.
فكان صلى الله عليه وسلم يخطب على الجذع بادئ الأمر، ثم صنع المنبر ووضع في مكانه اليوم، ومن الحكمة أن المنبر في موضعه لم يتحرك شرقاً أو غرباً، ولا شمالاً ولا جنوباً، ولكن امتد طوله من الجنوب إلى الشمال؛ لأنه الآن أصبح فوق عشر درجات أو اثنتي عشرة درجة، فالامتداد كان إلى الأمام، وأما صدر المنبر وظهر المنبر من القبلة فهو بالأصبع في مكانه الأول.
ثم صعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر ليخطب، فما أن بدأ الخطبة على المنبر والجذع في مكانه حتى حنَّ الجذع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى سمع جميع من في المسجد حنينه كحنين الناقة العشراء.
فيا لها من معجزة! جذع له ثمان سنوات مقطوع من أصله ملقىً على الأرض أصبح جماداً يحنّ لرسول الله ويسمع الجميع حنينه.
ومن هنا قال السيوطي رحمه الله: ما من معجزة أوتيها نبي إلا وأعطي النبي صلى الله عليه وسلم مثلها.
فمعجزة موسى عليه وعلى نبينا السلام العصا يتوكأ ويهش بها الغنم، قال تعالى لموسى: {أَلْقِهَا يَا مُوسَى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} [طه:١٩-٢٠] ، فانقلبت من جماد يابس إلى حيوان تهتز كأنها جان، أي: لشدة حركتها وسرعتها، قال تعالى: {خُذْهَا وَلا تَخَفْ} [طه:٢١] .
وضرب بها البحر ليكون فيه طريق في البحر يبسٌ.
فإن كان موسى أعطي حياة العصا بمعجزاتها فقد أوتي النبي صلى الله عليه وسلم حياة الجذع يحنّ ويسمع الجميع صوته، وعصا موسى ما تكلمت ولا سمع لها صوت، لكن كانت لها حركة، فهذه المعجزة تساوت مع معجزة موسى عليه السلام، وهناك أشياء عديدة.
فينزل صلى الله عليه وسلم عن المنبر إلى الجذع، ويربت عليه ويضمه إلى صدره كما تفعل الأم بطفلها، ويقول: (أنت مخيّر: إن شئت أخذتك وأعدتك إلى البساتين وغرستك وعدت نخلة تثمر وتينع، وإن شئت دفنتك هاهنا وكنت من غرس الجنة) ، فقال: (أكون من غرس الجنة) ، فالجذع يؤمن بالجنة وأصحاب العقول المغلقة لا يؤمنون بها!! فيدفنه صلى الله عليه وسلم بأصل المنبر في الروضة.
فهذه قضية المنبر، وهاهو أبو هريرة وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما يحدثان أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على أعواد منبره.
ومن فضائل هذا المنبر قوله صلى الله عليه وسلم: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على ترعة من ترع الجنة) ، والترعة لا يعلم عرضها وطولها ومصبها إلا الله تعالى، فهي أمر غيبي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق، ويكفينا أن الجذع آمن بالجنة وأحب أن يكون من أهلها.