[شرح حديث جابر وآية الجمعة في حضور التجارة والانفضاض عن الخطبة]
هذا الحديث عن جابر رضي الله عنه يبين لنا أمرين: الأمر الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائماً، وسيوضح المؤلف رحمه الله تعالى كيفية هذا القيام والجلوس بين الخطبتين.
والأمر الثاني من هذا الحديث ما يتعلق بمجيء العير -والعير: هي الإبل تحمل البضاعة- فانفض الناس إليها، وانفتلوا أو انصرفوا إليها، ولم يبق إلا اثنا عشر رجلاً، وهذا الجزء من هذا الحديث هو موضوع عدد من تنعقد بهم الجمعة، والأصل في هذه القضية ما أشار إليه المؤلف رحمه الله بمجيء العير وقت الخطبة، وكانت الخطبة في ذلك الوقت بعد الصلاة، كما هو الحال في العيدين، وقد بيّن القرآن الكريم هذه الواقعة، ثم وضحها النبي صلى الله عليه وسلم.
واستدلال العلماء بعدد اثني عشر رجلاً هو لما جاء في هذا الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى منهم ذلك قال: (لو انفضوا جميعاً لسال بهم الوادي ناراً) ، فقالوا: إن أقل ما دفع عنهم أن يسيل بهم الوادي ناراً هو العدد اثنا عشر رجلاً، وعليه فلا تنعقد الجمعة بأقل من اثني عشر رجلاً، أما مناقشة هذا العدد فستأتي بعد الكلام عن الآية الكريمة في قوله سبحانه: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ اللَّهْوِ وَمِنْ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة:١١] فقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً} [الجمعة:١١] كان من عادة أهل المدينة إذا قدمت عير بتجارة أن تدق لها الطبول إيذاناً بقدومها، فيحضر التجار ومن يريد الشراء، فصادف مجيء تلك العير قيام الرسول صلى الله عليه وسلم في خطبته، فما ظن أولئك الذين انصرفوا عن رسول الله أنه بقي عليهم واجب الانتظار؛ لأنهم لما صلوا الجمعة حسبوا أن الجلوس لسماع الخطبة من باب النافلة وليس بلازم عليهم، وهذا هو المظنون بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك دفعاً لما يتوهمه متوهم، وما يغمز به أصحاب الأهواء بأن الذين انفضوا من المنافقين.
وقد يستدل لما يقوله أصحاب هذا الرأي بما جاء بعد سورة الجمعة، حيث جاء الحديث عن المنافقين، وهذا ليس بصحيح، لكن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انقضت الصلاة، ولم يبق إلا الخطبة ظنوا أنه ليس عليهم حرج في أن ينصرفوا ما داموا قد أدوا الصلاة.
ونلاحظ هنا قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً} [الجمعة:١١] ، وهم في المسجد لم يروا، واللهو لا يرى، وإنما يسمع، ولكن التعبير شمل الإدراك؛ لأن الرؤية أقوى أنواع الإدراك.
كما أنه ذكرت التجارة واللهو، وأعيد الضمير على مفرد أحد الأمرين المذكورين وهو التجارة: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا} [الجمعة:١١] ، ولم يقل: (إليهما) .
ولم يقل: (إليه) ، بل قال: (إِلَيْهَا) ، وضمير التأنيث هنا عائد على التجارة، فقالوا: لما كانت التجارة هي الأصل واللهو تابعاً لها للإعلام عنها كانت هي الأهم، فعاد الضمير عليها، ويلاحظ نظير ذلك في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة:٣٤] ، فلم يقل: (ينفقونهما) أو (ينفقونه) فأعاد الضمير على الفضة.
وهنا يتساءل إنسان: الذهب أهم من الفضة، فلم لم يعد الضمير عليه، أو عليهما معاً؟ والجواب: أن هذا من بلاغة القرآن وإعجازه؛ لأنا لو نظرنا إلى الكنز عند الناس لوجدنا أكثر من يكنز هم أصحاب الفضة؛ لأن الفضة أكثر تناولاً وأرخص قيمة، ويمكن أن يكنزها الغني والفقير كما يقال، لكن الذهب مختص بكبار الأغنياء، فكان الوعيد في كنز النقدين، فإذا توجه إلى الأقل كان الأكثر من باب أولى، فعود الضمير على أحد المتماثلين المقترنين يكون لسرٍ في هذا التعبير، وقد تبين لنا في الذهب والفضة عود الضمير على الفضة؛ لأنها أكثر شمولاً؛ ولأنه من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، فإذا كان الذي يكنز الفضة متوعداً فالذي لا ينفق الذهب من باب أولى.
وهنا كانت التجارة هي الأصل، واللهو إنما هو تابع لها للإعلام عنها، فرجع الضمير إليها.
انظر إلى ما بعدها في المغايرة، حيث قال تعالى {قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ اللَّهْوِ وَمِنْ التِّجَارَةِ} [الجمعة:١١] ، فقدم هنا اللهو على التجارة؛ لأن المنفضين جاء بهم سماع اللهو، وهو دق الطبول، فقال تعالى: {قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ اللَّهْوِ وَمِنْ التِّجَارَةِ} [الجمعة:١١] أي: التي خرجتم من أجلها، واستدعاكم إليها سماع اللهو.
ثم قال تعالى: {وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة:١١] ، أي: إن كنتم تطلبون الربح والرزق في هذه التجارة وتركتم رسول الله قائماً فما عند الله ببقائكم عند رسول الله تستمعون إليه خير: {وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة:١١] .