نحن قدمنا سابقاً في قضية مروان بن الحكم في مسألة صيام الجنب، أنه لابد أن نطلع على أدلة الفريق الآخر، وكيف نرد عليها، فالذين منعوا استفادة الميت من عمل الحي قالوا: جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع به، أو صدقة جارية) ، وجاء في القرآن الكريم:{وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}[النجم:٣٩] .
ويجيب على ذلك شارح الطحاوية وابن تيمية رحمهما الله بأجوبة متعددة، وخلاصة ذلك: أن في الحديث أنه انقطع عمله المباشر، أما عمله بالواسطة الذي تسبب به في حياته، فلا نقطع، كالصدقة الجارية، مثل أن يكون بنى مسجداً، أجرى نهراً، حفر بئراً، بنى مسكناً للمساكين، فهذه صدقة جارية من بعده، وهي من عمله، فيقولان: هذا الميت حينما كان حياً، وصلته بالمسلمين عموماً كانت حسنة، وكان يتودد إليهم ويساعدهم ويتألفهم، فهو أوجد لنفسه عندهم تعاطفاً معه؛ فلما مات تصدقوا عليه، فلما مات صاموا عنه، فلما مات قرءوا له، فهذه القراءة التي جاءت من الغير لهذا الميت هي من عمله، وما هو عمله؟ هو حسن علاقته معهم في حياته، أليس عطف قلوبهم عليه، وصحبتهم له، وتذكرهم له بالدعاء والمغفرة؛ نتيجة لعمله معهم؟ بلى هو من عمله.
وأما قوله تعالى:{وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}[النجم:٣٩] ، فسعيه وكسبه بالسعي انتهى، ولكن الآية لم تمنع أن ينتفع بسعي غيره، نعم إن صلاة غيره لمن صلى، وصدقة غيره لمن تصدق، وليس للميت شيء، فهذا الذي سعى بصلاة أو بصيام سعيه له، فبالقياس الصحيح أنه لما أصبح سعيه له فهو حر فيه: إن شاء أمسكه لنفسه، وإن شاء قدمه للميت، فإذا سعى إنسان حي لتحصيل الأجر من أي عبادة كانت، فأصبح الأجر ملكاً لهذا الساعي وهو على قيد الحياة، ولما أصبح ملكاً له، فله أن يضعه حيث شاء.
وذكر شارح الطحاوية مثالاً: الأجير يعمل ويؤدي الخدمة لمن استأجره ويأخذ الأجرة، وبعدما يأخذ الأجرة يضعها حيث شاء، يستبقيها لنفسه، يعطيها لوالده، يعطيها لولده، وله أن يعطيها للميت كما يعطي الآخرين.
قالا: لا تعارض بين قوله: (تصوم لهما مع صومك، وتصلي لهما مع صلاتك) ، وقوله:(من مات وعليه صوم صام عنه وليه) ، وبين حديث:(انقطع عمله) ، فهذا عمله الشخصي، ولم يقل الحديث: ولم ينتفع بعمل الغير، بل قال:(انقطع عمله) هو، ولم ينفِ أن ينتفع بعمل الغير، إذاً: عمله انقطع، وجاءته المنفعة من عمل الغير، والحديث لم يمنع ذلك، وكذلك الآية الكريمة.
قالوا: وقوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}[الأنعام:١٦٤] ، تدل على أن العقاب لا يتحمله إنسان عن ذنب إنسان آخر، وهذا لا دخل له في ذلك.
أيها الإخوة! نكون في الجملة قد عرجنا على الجانب الأول، وهو: أن الميت ينتفع بعمل الحي، سواء كان الانتفاع مالياً أو بدنياً، وذكرنا القول المخالف وما استدلوا به، وجواب العلماء عنها، وبالله تعالى التوفيق.
ونأتي لفقه الحديث: مذهب مالك والشافعي وقول عن أبي حنيفة رحمهم الله أنه لا صيام عن الميت، ولكن يطعم عن كل يوم مسكيناً، ومذهب أحمد رحمه الله وبعض أصحاب الشافعي وبعض أصحاب مالك أنه إن صام عنه أجزأ عنه، وبرئت ذمته من ذلك، والله تعالى أعلم.