[حماية الله للكعبة من أصحاب الفيل]
ومما قاله في ذلك الموقف رداً على تساؤلات في نفوسهم، وهذا فيه توجيه إلى أنه ينبغي على ولاة الأمر أن ينتبهوا لمشاعر الناس وما يدور في خلجاتهم بمقتضى القرائن، فالموقف الآن اقتحام مكة ودخولها بالسلاح، وقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وعلى رأسه المغفر، أي: أنه ليس بمحرم بل مقاتل، فلما كانت الصورة صورة استباحة واستحلال مكة، وهي محرمة، يعظمون حرمتها وقد كان الرجل قبل الإسلام يلقى قاتل أبيه أو أخيه فلا يمد يده عليه إعظاماً لحرمة الحرم، قال الله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران:٩٧] ، أي: ومن دخله من إنس أو طير أو حيوان؛ بل حتى النبات فهو آمن فيه؛ فلا يقطع شجره، ولا يختلى خلاه، ولا ينفر صيده، ولقطته محرمة، أين ذهبت هذه الحرمة؟ فهنا أزال عنهم كابوس هذا التفكير فقال (إن الله حبس) فأتى بهذه المقدمة حتى نعلم جميعاً أن مكة محرمة، وأن الله حبس عنها الفيل، قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل:١] ، فقد جاء أبرهة بجيش عرمرم، وأتى بالفيل من أجل أن يستعين به على هدم الكعبة؛ لأنه كان قد بنى كنيسة وسماها (القليس) وزخرفها وزينها ليصرف عرب اليمن إليها بدلاً من الحج إلى الكعبة، وبالتالي يصرف القبائل المجاورة لليمن، فجاء رجل أعرابي غار على الكعبة، وأراد أن يكيد للملك، فدخل القليس وتبرز فيها، فبلغ الملك هذا الفعل، فغضب وقال: لأهدمن بيتهم الذي يعتزون به انتقاماً للقليس.
فجمع الجيش وأخذ الفيل وتوجه إلى الحجاز، وعندما وصل الطائف كان هناك الصنم الذي يعبدونه، فقالوا له: ليس هذا الذي تريد، مطلبك أمامك، وأخذ دليلاً من الطائف يدله على البيت الحرام، فلما وصلوا إلى وادي محسر ونزلوا، جاء الدليل الذي يدلهم على مكان البيت وهمس في أذن الفيل وقال: يا محمود! أتدري إلى أين أنت ذاهب؟ إنهم يريدونك لهدم بيت الله - يقولون: أذكى الحيوانات الفرس والفيل- فلما أرادوا الذهاب أتوا إلى الفيل ليمشي فإذا به يرفض، فضربوه ولكن دون فائدة، حتى جاءوا بمحاجم من نار وكووه في مناعمه فلم ينهض، وتحمل كي النار، وكانوا إذا حولوه عن جهة الكعبة قام يهرول، فإذا قام ومشى وحولوه إلى الكعبة برك؛ فسمي: وادي محسر؛ لأن الفيل انحسر فيه.
وأعتقد أن أبرهة كان غبياً مثل فرعون، أو أن الطغيان يعمي، فإن فرعون لما رأى موسى وقومه عندما فتح الله لهم في البحر طريقاً يبساً ومشوا فيه، فلم يفكر من الذي شق لهم البحر وجعل لهم طريقاً يبساً، وجعل الماء كل فرق كالطود العظيم، فلم يعلم أنه لا يقوى على ذلك إلا الله، وأن الذي فعل له ذلك لا يفعله لكل إنسان، إذاً: فهو ليس كالناس العاديين، فاقبل رسالته، وسالمه، وابتعد عنه، واتركه يمشي في سبيله وارجع، لكنه لج في طغيانه ودخل البحر.
وكذلك أبرهة، فقد رأى أن الفيل رفض المشي، وعظم الجهة التي هو ذاهب إليها، ولم تخضعه حرارة النار، ومع ذلك لم يفكر في هذا الأمر؛ بل أصر على الذهاب، فعومل بنقيض قصده.
والفيل هو أضخم حيوان ثم يأتي بعده وحيد القرن، ثم الجمل، فهو عندما جاء بالفيل الكبير أهلكه الله بطير أبابيل تحمل الحجارة، كل طائر يحمل ثلاثة أحجار، إذا أسقط الطائر هذا الحجر على رأس أحدهم وهو راكب على دابته اخترقت رأسه واخترقت الدابة التي هو عليها حتى تصل إلى الأرض، فيا ترى ما هي المادة التي كانت منها هذه الحجارة حتى تخترق الفرس والفارس؟! إنها قوة عجيبة! والشيء بالشيء يذكر، يقولون: إن معدن اليود يابس مثل الكحل لكن لونه بني، إذا وضع على الحديد أحرقه، وإذا وضع على الخشب أشعل فيه النار، وإذا وضع على رصاص أذابه، وإذا وضع على الزجاج فإن الزجاج لا يحتر ولا يتأثر، فهذا معدن مستخلص من ماء البحر، ويكون له هذا الأثر مع تلك المواد ومع ذلك لا يتأثر به الزجاج، ولذا يحفظ في أواني زجاجية، والغطاء يكون زجاجاً أيضاً، وقدرة الله فوق كل شيء.
فهنا قال صلى الله عليه وسلم (إن الله حبس عن مكة الفيل) ، وكذلك في صلح الحديبية لما قال: (هل لنا من رجل يدلنا على الحرم ونتجنب طلائع قريش) وقال القائل: أنا، ومشوا إلى أن وصلوا إلى حدود الحل والحرم، فبركت الناقة، فقال قائل: خلأت القصواء، أي: تعبت من السفر وبركت إعياء وتعباً، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا والله، ما خلأت وما هو لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل، والله لا يعرضون عليّ خطة يعظمون فيها محارم الله إلا أجبتهم إليها) ، ولهذا تنازل معهم في مواد الصلح، حتى إن عمر غلبه الغضب وما استطاع أن يتحمل؛ لأنه كان من بنود الصلح: من جاءنا منكم نرده، ومن جاءكم منا لا تردونه علينا.
إذاً: الحيوان الأعجم يلهمه الله عظمة حرمة البيت، وبعض الناس -نسأل الله السلامة والعافية -تحجب بصائرهم وتتحجر قلوبهم ولا يرون لمكة حرمة، الفيل يعظم حرمة مكة ويبرك مكانه ولا يتحرك من كي النار، والإنسان الطاغية الجبار يخترق حرمة مكة وينتهكها ويقاتل أهلها، أرأيت مقارنة مثل هذه؟! إذاً: الحيوانات لها إدراك، وقد جاء في موطأ مالك في فضل يوم الجمعة: (وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وتصيخ بسمعها يوم الجمعة بعد صلاة الفجر إلى طلوع الشمس شفقاً من الساعة) فما أدرى الحيوانات بالجمعة أو السبت؟ وما أدراها بقيام الساعة؟ وما أدراها حتى تصيخ بسمعها لتسمع النفخة؟ إذاً: تلك الحيوانات لها إدراك: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام:٣٨] ، بل قد يكونون أحسن منكم، ولذلك لما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى من سورة الرحمن على وفد الجن: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:١٣] ردوا وقالوا: ولا بشيء من آلاء ربنا نكذب، وقرأها على الإنس فلم يتكلم أحد، فقال: (والله للجن أحسن سماعاً منكم) .
ولما ورد كتاب من عبد الملك بن مروان إلى الحجاج، فقرأه على أهل العراق وفيه: من أمير المؤمنين إلى أهل العراق، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فما رد عليه السلام أحد، فقال لقارئه: أمسك، واستل سيفه وقال: أنا ابن جلا وطلاع الثنايا متى أضع العمامة تعرفوني ويحكم! الخليفة يسلم عليكم ولا تردون عليه السلام، إني لأرى رءوساً قد أينعت وقد حان قطافها، ثم بعد ذلك قرأ الكتاب من أوله، فقالوا كلهم: وعلى أمير المؤمنين السلام ورحمة الله وبركاته.