[حكم لقطة الأشياء المحتقرة]
المؤلف رحمه الله صدَّر هذا الباب بحديث التمرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم وجد تمرة في الطريق) .
أي: الطريق المعهود، وليست في خلاء ولا خراب، وقولنا: (في الطريق المعهود) .
أي: مظنة أنها وقعت من إنسان مر بهذا الطريق، فقال صلى الله عليه وسلم: (لولا أني أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها) .
بدأ المؤلف بهذا الحديث ليبين: أن الشيء التافه لا يدخل في حكم اللقطة في تعريفها وتملكها وغير ذلك، وأن التمرة لو سقطت من إنسان لن يعود ليبحث عنها، فهي تمرة من ضمن التمر، وهذا أمر بسيط؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يقول معللاً ذلك بأمر خارجي: (لولا أني أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها) ، لماذا؟ لأن الصدقة محرمة عليه، فتورعاً وتخفظاً من المحرم عليه امتنع من أكلها، ولو علم أنها ليست صدقة لأكلها.
وكيف يأكلها وهي ملك للغير؟ قالوا: يلتقطها؛ لأنها أمر تافه.
إذاً: التافه ليس من باب اللقطة، ولا يحتاج إلى تعريف.
ويذكرون عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها: أنها وجدت تمرة في الطريق، فأخذتها فأكلتها وقالت: (إن الله لا يحب الفساد) ، يعني: لو تركتها لفسدت، ووطئها الناس، وجاء عليها الغبار وتلفت ولم يُستفد منها أحد، وهي لا تحرم عليها الصدقة.
ومن ناحية أخرى: كونه صلى الله عليه وسلم يلتقط تمرة ويمتنع من أن يأكلها، فأين يذهب بها؟ قالوا: كما جرت العادة في أصغر طفل أو إنسان يواجهه -ممن لا تحرم عليه الصدقة- يعطيه إياها، كما كانوا في المدينة من عادتهم إذا جاءت باكورة الثمرة في أول مجيء الصيف ظهرت كالتين؛ والحماط نضجت حبة منه، يأتون بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرحاً بوجودها، علماً منهم أنه يفرح بفرحهم، وليدعو لهم، وحينما يعطوه إياها هل يستأثر بها لنفسه؟ لا.
أو يردها على من أتى بها؟ لا.
بل ينظر إلى أصغر الموجودين في المجلس فيقدمها إليه.
وكنت قد وقفت منذ زمن على خبر مثل هذا: (أن الحسن رضي الله تعالى عنه كان يمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى تمرة في الأرض فالتقطها ليأكلها) .
وهذا شيء طبيعي؛ لأن الطفل لا يعرف إلا ما ألقت يده إلى فمه، سواء كان نافعاً أو غير نافع، (فأدخل صلى الله عليه وسلم إصبعه في فيه، وهو يقول: كخ كخ- لأن هذه لغة الطفل- ويخرج التمرة من فيه ويقول: أخشى أن تكون من تمر الصدقة) .
إذاً: الصغير لا يقره وليه على التقاط ما لا يجوز أكله، أو على أكل ما لا يجوز له في حكمه شرعاً، وإن كان صغيراً ليس عليه تكليف، لأن وليه مسئول عنه.
ومن هنا قالوا: من وجد شيئاً تافهاً لا تتبعه همة أصحابه فأخذه فلا مانع، وجاءت روايات بعض الأحاديث: (لقد أذن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العصا، وفي الحبل، وفي الشسع) ، شسع النعل: هو الخيط الذي يأتي في مقدمة النعل، ويأتي في القدم بين أصبع الإبهام والتي تليها، ويربط على وسط الرجل، فهذا الشسع من التوافه، ومما لا يلتفت إليه.
وكل زمن له مقاييسه، فإذا وجدنا من مستحدثات الأمور وتوابع الحياة أشياء لا يتبعها صاحبها ويرجع إذا افتقدها ليبحث عنها، اعتبرناها لقطة؛ مثلاً: الطلاب في المدارس يخرجون، يسقط منهم مرسام، يسقط منه ورقة، المساحة، فهو لا يرجع يبحث عنها؛ لأن أباه سوف يشتري له غيرها بدون عناء، فمثل هذه في عرف الطلاب لا يبحث عليها، لكن لو ضاع منه قلم (باركل) سيرجع إلى المدرسة ليفتش عنه؛ لأن قيمته غير المرسام، وكذلك لو سقط منه كشكول كبير؛ بخلاف ما إذا كانت ورقة عادية.
إذاً: الأمور بالعادات وبحسب الوقت والعرف؛ فننظر في أي زمان ومكان وجد هذا الشيء، وما قيمته؛ فإن كان مما لا تتبعه همة الناس فيأخذه، وإن كان مما له قيمته وتتبعه همة الناس وتبحث عنه فهو في حكم اللقطة، والله تعالى أعلم.