ننتقل إلى نوع آخر من أنواع البيوع، ليس من قبيل الغرر بالجهالة، ولكن من قبيل الغرر بالعجز عن التسليم، وهو النهي عن بيع العبد الآبق.
يقال: آبق وشارد، آبق للعبد، وشارد للبعير، تقول: شرد البعير، وأبق العبد، والآبق: هو الهارب، قال تعالى:{إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ}[الصافات:١٤٠] ، فالآبق والشارد بمعنى واحد، إلا أنه اصطلح على إطلاق الآبق في الإنسان، والشارد في البعير وغيره.
والعبد الآبق عن سيده لا يخلو من أمرين: إما أن يعلم مكانه الذي هو فيه، وإما أن لا يعلم مكانه، فإذا كان لا يعلم مكانه فهو في الجهالة أعمق وأبعد، فإنه لا يعلم أهو حي أو ميت؟ أما إذا اعلم أين هو، كأن يأبق من المدينة إلى جدة، ويعرف عنوانه ومكانه، فجاء إنسان وقال: يا أخي! عبدك هذا الذي أبق عليك وعجزت عنه بعنيه، فباعه له فاشتراه، فعند أن يذهب إليه ليأخذه فقد لا يجد أصلاً، وقد يجده هالكاً، وقد يجده ولا يستطيع أخذه؛ لشدة تمرده وقوته، فإن وجده هالكاً، فإن ذلك يكون على حساب صاحبه، لا على حساب المشتري؛ لأنه ما زال في ملكه، وإن لم يجده، أو وجده ولم يستطع أخذه؛ فإن ذلك ينقض البيع، ولذلك نهي عن بيع العبد الآبق.
إذاً: المشتري إما أن يكون جاهلاً بمكان العبد الآبق؛ فشراؤه غرر من أول لحظة، وإما أن يكون عالماً بمكانه، وطمع أن يحصل عليه، فذهب إليه ولقيه وعجز عن أخذه فسيرجع على البائع.
ومثله البعير الشارد، فإذا شرد عليك بعير، ولا تعلم أين هو، فهذا لا سبيل إلى بيعه، فجاء إنسان وقال: يا فلان! وجدت بعيراً عليه وسمك -وكانت العرب تسم الإبل، فكل قبيلة تسم إبلها على صفحة العنق، أو على لوح الكتف، أو على المؤخرة، فهذه عادة كانت عند العرب، حتى لو ذهبت في أي مكان ورآها أي إنسان عرف أنها من إبل القبيلة الفلانية فلا يمد يده إليها فقال: وجدت بعيراً من سمة إبلك في المحل الفلاني، فقال: هذا شارد عني من زمان، ثم قال: بعنيه، فباعه له، واشتراه، فذهب ليأخذ البعير فإذا بالبعير هايج، وعجز المشتري أن يخضع البعير وأن يقوده إليه، فماذا سيفعل؟ سيرجع على البائع، وكذلك إذا ذهب ليأخذه فلم يجده، فحينئذ أيضاً يكون معجوزاً عن تسليمه.
فالعبد الآبق والبعير الشارد يعجز صاحبه عن تسليمه للمشتري، وهكذا كل سلعة يعجز مالكها عن تسليمها للمشتري لا يجوز بيعها.