[صحة الحج عن الغير]
وفي هذا الحديث -كما يقول الإمام ابن حجر وغيره- من المسائل الفقهية: صحة حج الغير عن غيره، وهذه كما قالوا: مغايرة للأصول: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:٣٩] وأنهم مجمعون على أنه لا يصلي إنسان عن إنسان، ولا يصوم إنسان عن إنسان وهو على قيد الحياة، وقال الآخرون: هذه قضية فيها نص، فلا حاجة إلى قياسها على غيرها.
وقالوا أيضاً: إن العبادات تنقسم إلى قسمين: عبادة بدنية مقصودة من الشخص بعينه.
وعبادة مالية ليست مقصودة من الشخص بعينه، ولكنها مقصودة من عين المال، فالعبادة البدنية لا تتأتى من أحد عن أحد؛ لأن الصلاة فيها وقوف بين يدي الله، وفيها الخشوع، وفيها الخضوع، وفيها الذكر والدعاء، وهذا أمر شخصي يرجع إلى المصلي، فإذا صلى غيره عنه، فأين تلك المعاني لمن صلى عنه؟! وكذلك الصوم: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:١٨٣] أي: بالصوم، فإذا صام إنسان عن إنسان، فات على من صيم عنه معاني اكتساب التقوى.
أما العبادات المالية: كالزكاة، والكفارات، ووفاء النذور، فإنها تتعلق بالمال، والمال لا دخل له في الإنسان إلا من ناحية الشح والسخاء ونحو ذلك، ويسقط الواجب بهذا الجزء من المال سواءً كان من صاحبه أو من غيره، كما سيأتي في الحديث: (أرأيت لو كان على أمك دينٌ فقضيته أكان ينفعها؟) أي: هل يسقط عنها الدين، والمطالبة به أم لا؟ قالت: نعم، فأحالها على ما تعلم، لتعرف حكم ما لم تعلم.
فإذا وجد إنسان مدين، وطولب بأداء الدين فلم يستطع الأداء وأخذ إلى السجن، فجاء إنسان آخر ودفع عنه الدين شفقة ورحمة، فهل يقال: لا، بل يبقى في السجن حتى يدفع هو! أو حتى يسقط عنه الدين وتسقط المطالبة؟ حتى يسقط عنه الدين وتسقط المطالبة.
وقالوا: إن الحج يجمع بين القسمين، عبادة البدن: المتمثلة في الحل والترحال، والطواف، والسعي، والوقوف، وعبادة المال: المتمثلة في الزاد، والراحلة، ولذا يقول بعض العلماء: إذا غلب جانب البدن فلا يحج أحد عن أحد في الحياة، وإذا غلب جانب المال فإنه يحج كل إنسان عن أي إنسان في الحياة، وعلى هذا يكون الراجح: صحة نيابة الإنسان في الحج عن غيره، وهذا هو مذهب الجمهور، وخالف في ذلك المالكية، فقالوا: ما دام موجوداً حياً فلا حج عنه ولا نيابة، فغلبوا جانب العبادة البدنية.
ولا تشترط المماثلة فيجوز أن تحج امرأة عن رجل، وكذلك رجل يحج عن امرأة، ولا مانع من ذلك، هذا من النواحي الفقهية.
من النواحي الأخرى: أن هذه امرأة نظرت إلى حال أبيها، وقد بلغ به الكبر إلى هذا الحد، وهي تتطلع إلى بره والإحسان إليه؛ لتخرجه من عهدة الواجب عليه، وهذا هو الواجب على كل ابن تجاه والديه.
إذاً: الحديث يتناول عدة جوانب سواء كان من جانب التشريع: الحلال والحرام، والإجزاء وعدمه، أو كان من جانب الأمور الاجتماعية: من الإحسان، والبر، ونحو ذلك.
كذلك مسألة سفور المرأة، وإزالة ما يراه الإنسان سداً للذرائع، كما هو الأصل في مذهب مالك؛ لأن صرف وجه الفضل عن الفتاة سدٌ لذريعة الفتنة بينهما، وهذا على قدر سلطة الإنسان، إن كانت له سلطة باليد فباليد، وإن لم تكن له سلطة باليد فبالقول، وإن لم يستطع بالقول فيكون بالوسيلة الثالثة، وهي القلب، وذلك أضعف الإيمان.
إذاً: موضوع هذا الحديث هو: بيان نيابة حج الإنسان عن غيره لعذر، ألا وهو: العجز عن السفر إلى الحج لعذر لا يرجى زواله ولا برؤه.