للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حكم أخذ الصدقة من غير سؤال ولا استشراف وإن كان غير محتاج لها]

قال المصنف رحمه الله: [وعن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعطي عمر بن الخطاب العطاء، فيقول: أعطه أفقر مني، فيقول: خذه فتموله أو تصدق به، وما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك) رواه مسلم] .

في هذا الحديث قاعدة عامة لجميع الأمة باختلاف طبقاتها وأنسابها، يقول ابن عمر: إن أبي كان يعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم العطاء، والعطاء في هذا الباب يحتمل احتمالين: أنه عطاء العمالة على الزكاة، فيكون قد استعمله، أو أنه العطاء الذي كان يعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه عند مجيء مال إليه من أي جهة كانت.

ونذكر بهذه المناسبة قضية مال البحرين حينما جيء به ووضع في المسجد النبوي، وكان كل من أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاه من هذا المال، وجعل أبا هريرة حارساً له، ونعلم قصة الجني الذي كان يأتيه ويأخذ من هذا المال، ليتحقق الذين يتشككون في وجود الجن أو مخالطتهم للإنسان، فقد كان يأتي شيطان في صورة إنسان ويأخذ من هذا المال، فأمسكه أبو هريرة في أول ليلة، فشدد عليه الخناق، فقال الشيطان: أنا من كذا، ودعني فإني ذو عيال وحاجة وفاقة، وأعاهدك ألا أعود، فَرَق له أبو هريرة وأشفق عليه -وهذا خطأ في النظاميات أن يتأثر الإنسان بالعاطفة فيما وكل إليه رسمياً- فتركه.

وفي الليلة الثانية جاء أيضاً فأمسكه، فأخذ يعتذر ويكذب ويعطي العهود والمواثيق، وأنه ذو عيال، وذو فاقة، ولن يعود، فأشفق عليه وتركه.

وفي الليلة الثالثة أتى فأمسكه أبو هريرة، وقال: لن أطلقك بعد المرتين السابقتين، وسأحتفظ بك إلى أن آتي بك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرى رأيه فيك، فقال لـ أبي هريرة: ألا تطلقني وأعلمك فائدة؟ قال: وما هي؟ قال: إذا أردت أن تحفظ مالك من الجن فاقرأ عليه آية الكرسي؛ فإنه لا يمسه ولا يقربه جني، فقبل أبو هريرة منه ذلك وتركه، وقرأ آية الكرسي على المال الذي يحرسه.

وفي صلاة الصبح أقبل أبو هريرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فابتدره متبسماً وقال: (ما فعل الله بأسيرك البارحة يا أبا هريرة؟! فقال: فعل كذا، وفعل كذا، قال: أتدري من تعاني في الليالي الثلاث يا أبا هريرة؟! قال: لا.

قال: ذاك شيطان، وقد صدقك وهو كذوب) ، انظر إلى هذا الأسلوب النبوي الذي تظهر فيه المقابلة حيث قال: (صدقك) وقال: (كذوب) ، أي: صدقك فيما أخبرك به عن آية الكرسي، وكذوب في مواعيده التي أوعدك إياها من قبل.

وهنا هذا المال كان موجوداً، ومن أخباره أن العباس رضي الله تعالى عنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أعطني، قال: خذ الذي تريد، فجاء بردائه ووضعه وحمل عليه فلما أراد أن يحمله عجز عن حمله، فقال: عاوني عليه يا رسول الله! قال له: (خذ على قدر طاقتك) ، قال: فمر أحد أصحابك يعاوني عليه، فقال له: (خذ قدر طاقتك) ، فوضع منه قليلاً، وأتى ليحمله فلم يستطع، وهكذا ثلاث مرات، وهو يقول: عاوني مر أحد أصحابك، فيقول له: (خذ قدر طاقتك) ، حتى صار المال الذي في ردائه قدر ما يستطيع أن يحمله فأخذه وذهب، وتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلمات.

قال تعالى: {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الأنفال:٧٠] ، وكان العباس يقول: (والله! لقد وجدنا الأولى، ونحن ننتظر الثانية) .

فعطاء النبي صلى الله عليه وسلم للعباس هو من مال المسلمين، وعطاء عمر قد يكون من هذا الباب وأنه عطاء كعطاء عامة المسلمين، أو أنه عطاءٌ خاص بالعمالة.

وقول عمر: (أعطه من هو أفقر مني) ، كأن عمر رضي الله تعالى عنه ينظر إلى أن الأحق بالعطاء من الصدقات هم الفقراء، ومن كان غنياً عن هذا العطاء من الصدقة فليستعفف، فقال له صلى الله عليه وسلم: (خذه فتموله) ، أي: امتلكه وضع يدك عليه، ليكون مملوكاً لك، وبعد أن تمتلكه فشأنك به، إما أن تتموله وتجعله من رأس مالك، وإما أن تتصدق به على غيرك، فتكون هذه صدقةً مستجدة منك أنت.

قوله: (أو تصدق به) .

أي: تصدق به إذا كنت لا تريد أن تتموله، وتكون هذه الصدقة منك وأجر مالك.

ولما كان عمر يرد العطاء؛ لأنه متعفف عنه وقانعٌ بما عنده، بين له صلى الله عليه وسلم متى يأخذ ومتى يرد، قال: (وما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرفٍ ولا سائلٍ) ، أي: إذا جاء العطاء مثلاً فجاء إنسان وقال: متى سيقسم هذا؟ وكم سيخص الإنسان منه؟ فاستشرفت نفسه إليه بسؤاله عن المال: متى جاء هذا المال؟ ومن أين؟ وأمثال هذه الأمور التي فيها تطلع؛ فإذا كنت جالساً وحولك أناس من ذوي الحاجة، وجاء من أعطاهم لحاجتهم، وأنت تنتظر أن يعطيك كما أعطاهم، فهذا هو تطلع واستشراف النفس للمال، وهذا كأنه سؤالٌ بالمعنى؛ لأن نفسك تريده، وهي تتطلع إليه.

وأما ما أتاك من هذا المال من غير استشراف نفسك، ولا تطلعك، بل جاء إنسان ووضع في حجرك مالاً، وقال: هذا هدية مني لك، وعطاء مني لك، وأنت لا تعلم به ولا تدري عنه، ولا تطلعت لماله، ولا استشرفت نفسك إلى ما عنده، فأخذته وقلت: جزاك الله خيراً، فهنا تنظر: إن كنت في حاجة إليه، فبارك الله لك فيه، وإن كنت في غنىً عنه فتصدق به على من هو أحوج منك إليه.

قوله: (ما أتاك من هذا المال وأنت غير مشرفٍ ولا سائل) ؛ في هذا تربية نفسية إسلامية عالية تجعل الإنسان غنياً بنفسه، مترفعاً عن أن يتطلع إلى أموال الناس، فضلاً عن أن يأتي ويصرح ويقول لأحد: أعطني، أو يأتي إلى إنسان ويقول: والله! الآن الحاجات في الأسواق غالية، وأصبح المرتب لا يساوي شيئاً، والأولاد يذهبون المدارس، وهي تريد كذا وكذا، فهو لا يقول له: أعطني، ولكنه يشتكي عنده، وهذه الشكوى مقتضاها العطاء.

إذاً: أيها الإنسان! شكواك حالك لغيرك ممن هو ذو مالٍ كأنه سؤال؛ لأنك استشرفت إلى ما عنده، وتطلعت إلى أن يعطيك.

ومن التطلع إلى مال الناس أن تكون من الناس ولديك لباس لا بأس به، فتتعمد أن تأتي إلى هذه التجمعات بلباس رث، وبحالة سيئة، وبحالة بئيسة تستعطف الناس الذين ينظرون إلى حالك، فيقولون: والله! فلان هذا مسكين، والله إن حاله سيئ فيعطونك؛ فهذا تعرض للناس بالحالة وبالصورة، وكما يقال: لسان الحال أفصح من لسان المقال.

فإذا كان الإنسان في غنىً وفي سعة فلا ينبغي أن يستشرف إلى ما في أيدي الناس، ولا أن يتطلع إليه، ولا أن يظهر بمظهر الذي يحتاج، وكأنه يسأل الناس بمظهره بدلاً من سؤالهم بلسانه.

فمعنى قوله صلى الله عليه وسلم: أن ما أتاك من هذا المال يا عمر! من غير أن تستشرف له نفسك أو تتطلع إليه فخذه؛ لأنك ما عملت من أجله شيئاً، ولا استجلبته لنفسك، ولا أهنت نفسك لأجله، ولا أظهرت نفسك في مظهر الفاقة، فأنت عزيز النفس مكرم، وهذا كرمٌ ممن أعطاك المال وفضلٌ منه، سواءٌ عرفك أو لم يعرفك، فما دام أنه أعطاك بدون سؤالٍ منك وبدون استشراف نفسك إليه وبدون تطلع إلى العطاء منه؛ فليس هناك ما يمنعك من أخذه.

فإذا أخذته فإن شئت تمولته وجعلته في رصيدك ورأس مالك؛ لأنه جاءك بوجهٍ شرعي طاهر نقي، وإن شئت تصدقت به، وتصدقك به لنفسك أنت لا لمن أعطاك إياه، وإن كان له في ذلك أجرٌ على مساعدتك، ولكن الأجر يكون لك أنت.

قوله: (وما لا فلا تتبعه نفسك) .

أي: وما لم يأتك من غير استشراف نفسك أو تطلعك إليه، فلا تتبعه نفسك، فلو جاء إنسان وأعطى الحاضرين وأنت لم يعطك، ولم يعط فلاناً وفلاناً، فلا تتطلع إليه، ولا تتبعه نفسك، ولا تقل: لماذا لم يعطني بينما أعطاهم؟ ونفسك تتبعه وكأن أشعة ترسلها من قلبك إليه: لماذا لم تعطني؟ وكأن لسان حالك يقول: عد وأعطني.

فإذا لم يأتك المال بعفة نفس وعدم تطلع وعدم استشراف فلا تتبعه نفسك، أي: لا تظل تفكر: لماذا لم يعطني؟ ولو أعطاني لكنت فعلت، ولكان كذا، فهذا الذي لا ينبغي ولا يليق بذي المروءة، فأنت ليس لديك دين عليه حتى تطالبه، وليس هو ملزم أن يعطيك، وما دام أنه لم يعطك من نفسه ابتداءً وأنت ليست لك عليه طريق بالعطاء، كدين ملزم، أو بجميلٍ يكافئك عليه، أو بشيءٍ من ذلك، وهو في حاله وأنت في حالك؛ فلا تستشرف نفسك إلى هذا المال الذي رأيته ولا تتبع نفسك إياه؛ لأنه لا حق لك به أصلاً، فإذا أعطاك من نفسه بطيب نفسٍ فخذه، وإلا فلا.

والله تعالى أعلم.