[الخلاف في أحقية الجار بالشفعة]
وإذا جئنا إلى موضوعنا فالمؤلف وغيره كما فعل البخاري ساق هذا الحديث في باب الشفعة، ما علاقة بيتين في دار بموضوع الشفعة؟ ليس هناك شركة مشاعة، إنما بيوت محددة مميزة، وكل بيت له باب، وهو مستقل بذاته، فلا علاقة للشفعة هنا؛ لأن الشفعة لا تكون إلا في شقص مشاع باعه أحد الشركاء على شخص آخر، وهنا لم يحصل بيع، وإنما صاحب البيتين يعرض على صاحب الدار أن يشتريهما منه.
إذاً: موضوع الحديث موضوع البيع والشراء ولا علاقة له بالشفعة أبداً، ولهذا ينبه ابن حجر في فتح الباري ويقول: الحديث موضوعه البيع، ولكن الذين يقولون بالشفعة للجوار يستدلون به؛ لأنه عرض عليه أن يشتريهما، ولئن كان جاره أولى بأن يشتري منه فكذلك جاره أولى بأن يشفع عليه؛ فتكون دلالة الحديث على الشفعة من باب القياس واللزوم وليس من باب النص؛ لأنه قال هنا: (اشتر بيتي اللذين هما في دارك.
فقال: والله! لا أشتريهما) .
إذاً: لو أنه توقف عند هذا وقال: والله! لا أشتريهما، ولم يشترهما فيكون كأنه ما حصل شيء؛ لأن الغير كان ممكن أن يشتريهما؛ لأنه قال: منعتهما من خمسمائة.
إذاً: قد سيم عليهما، وقد جاءه زبون، ولكنه نظر إلى الحديث: وقال: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الجار أحق بصقبه) وتقدم الكلام على كلمة: (صقب) بالصاد أو بالسين، وأما معناها فمنهم من يقول: الإحسان إلى الجار، ومنهم من يقول: المساعدة، وذكروا أموراً عديدة، حتى أن البخاري رحمه الله أتى بعد هذا الحديث في الصحيح بباب: أي الجارين أحق، وهو في باب الشفعة وما الذي نقله إلى أي الجارين أحق؟! ثم ساق حديث عائشة رضي الله تعالى عنها، قالت: (قلت: يا رسول الله! يكون لي الجاران، فإلى أيهم أهدي؟ ... ) الحديث.
لأنه صلى الله عليه وسلم وصى بالجار، فقال: (وما زال جبريل يوصيني بالجار ... ) الحديث.
والجار له حالات: جار من خلف البيت وله طريق من شارع آخر، ولكنه مجاور في البنيان من الظهر، وجار عن اليمين وبابه من شارع آخر، أو بابه من شارعك أنت، وجار عن اليسار، وجار مقابل، وبينكما الطريق، فأي هؤلاء الجيران هو الأقرب؟ وكذلك يأتي هذا البحث في دعاء الوليمة: إذا أتاك الجار ودعاك إلى وليمة، وجاء الجار الآخر فأيهما تقدم؟ أي: من أحق هؤلاء في وصف الجوار؟ الآن وصف الجوار يكون من أربع جهات: جار من الخلف وبابه من طريق آخر، وجار عن اليمين وبابه من طريق آخر أو من طريقك، وجار عن اليسار وبابه من طريقك أو من شارع آخر، وجار مقابل لك، فقال لها صلى الله عليه وسلم: (إلى أقربهما منك باباً) ومن هو الذي بابه أقرب؟ الجار الملاصق للجدار من الخلف بابه من طريق آخر، وأما الجار الذي مقابل له وبينهما الشارع فهو أقرب؛ لأنه ما بينهما إلا الشارع، ولكن لماذا قدم الأقرب؟ قدمه لأن قرب الباب يعطي معنى المجاورة أكثر، فهو يعطيه من خيره، وهو أسرع لو استنجد به، فإذا استنجد الجار بجيرانه فأسرع من يأتيه هو الذي يقابله؛ لأنه أقرب، فإذا كان الذي على يمينه أو الذي على يساره بابه في طريق واحد معه وهو أقرب فيقدم، أما إذا كان بابه المسافة إليه عشرون متراً، وهذا بابه المسافة إليه خمسة أمتار فهذا أقرب، وهكذا جعل صلى الله عليه وسلم التقديم بالنسبة لقرب الباب.
وهذا يأتي بحثه مستوفى كما يقول ابن حجر في باب الآداب في حقوق الجوار، وقد جاء عن عائشة رضي الله عنها في ذلك أخبار عديدة.
وهنا يقولون: سعد كان له بيتان متقابلان بينهما شارع مسافته اثنا عشر ذراعاً، وكان في بعض الدارين بيتان لـ أبي رافع، فعرض عليه أبو رافع أن يشتري البيتين فكان هذا الأمر.
إذاً: عرض أبي رافع على سعد أن يشتري منه البيتين من باب الأولوية في الشراء وليس من باب الشفعة في شيء، ولكنهم قالوا: إذا كان أبو رافع قدم سعداً في الشراء فكذلك يقدم في الشفعة، وهنا أبو رافع استدل بالأولوية لـ سعد في الشراء بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الجار أحق بصقبه) .
إذاً: هناك اشتراك بين بيع داري أبي رافع على سعد وبين أحقية الجار بصقب جاره، وإلى هنا يكون المؤلف قد أورد مع ما سيأتي بحث مسألة الشفعة في الجار، إلا أن الآتي أسانيده ضعيفة.
وقد قدمنا أن الجمهور على أن الشفعة لا تكون إلا في شركة مشاعة فيما يمكن قسمه، وأول الجمهور كلمة الجار في الشفعة بأنه الشريك، وهذا كما يقال: من التأويل البعيد لقرينة، واستدلوا بقول القائل: أجارتنا بيني فما أنت بجارة فسمى زوجته وهي شريكته في الحياة جارة، والبعض ينازع في استعمال اللغة كلمة (جارة) في معنى الزوجة، أو كلمة (الجار) بمعنى الشريك لبعد الدلالة في كلمة (جار) على الشريك، وقالوا: مما يؤيد البعد اللغوي القرينة، وهي ما جاء في الحديث الآخر: (فإذا وقعت القسمة، وضربت الحدود صرفت الطرق فلا شفعة) إذاً: وجود القسمة والحدود والطرق يؤكد بأن هذه الشفعة تكون في المقسوم قبل أن يقسم، فإذا ما قسم ووضعت الحدود وصرفت الطرق فقد أصبح الشريك جاراً وليس بمشارك.
ونهاية البحث في هذا كما يذكر ابن القيم رحمه الله وينسبه اختياراً لـ ابن تيمية رحمه الله، وهو قول الجمهور أن الأصل في الشفعة أن تكون في الشركة المشاعة في العقار الذي لم يقسم وهو قابل للقسمة، فإذا كان غير قابل للقسمة فلا شفعة، ومثلوا بالحمام وبالرحى وبالدكان الصغير وبالبئر، وقالوا: لأن هذه إذا قسمت لا يؤدى بقسميها ما كان يؤدى بمجموعهما، فالحمام إذا قسم لا يكون حمامين، وكل قسم لا يصلح أن يستعمل حماماً، فيمكن أن يستعمل للسكن، أو يستعمل مستودعاً، لكن أن يستعمل حماماً على ما كان من قبل فلا يصلح، وكذلك البئر، والرحى، وكذلك الدور الصغيرة، والدكاكين الصغيرة التي لو قسمت لم يصلح أحد القسمين على حدة فلا تصح الشفعة.
فإذا أراد الشريك أن يتخلص من الشراكة ماذا يفعل؟ قالوا: يجبر الشركاء بالبيع معه أو بشراء قسمه، فإما أن يشتروا قسمه، وإما أن يبيع الجميع وكل يأخذ حقه من الثمن، هذا رأي الجمهور.
المرتبة الثانية: الشركة في الجوار فإذا كان هناك تبعية للشراكة بأن كان هناك طريق مشترك أو مسقى ماء مشترك، فهذه بقية شراكة يمكن أن يتأذى منها الشريك الأول من الجار أو الشريك الذي سيأتي عليه فجعل له حق الشفعة.
المرتبة الثالثة: الجوار الملاصق بلا مشاركة، وهذه الترتيبات الثلاثة عند علماء العراق ما عدا أبا يوسف، فإنه يقول: إذا وجد الشريك المشاع فإن يحجب الشفعة عن كل أحد شفع أم لم يشفع.
ولكن المتأخرون يقولون: الأحناف لا يذكرون رأي أبي يوسف في هذه المسألة، ويقتصرون على رأي أبي حنيفة رحمه الله على التقسيم المتقدم: الشفعة في المرتبة الأولى للمشارك، فإذا لم يوجد فالشفعة في المرتبة الثانية للجار الذي له مشاركة في المرافق، فإذا لم يوجد فمطلق الجار المشارك، وهذا خلاصة ما جاء في النزاع في ثبوت الشفعة للجار أو عدم ثبوتها.