للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[صرف حكم الوتر من الوجوب إلى السنية]

قوله: (الوتر حق) : إلى هنا لو لم يأت بقية الحديث لكان هذا الجزء من هذا الحديث يوجب ويعين فرضية الوتر وأحقيته على كل فرد، أي: ليس واجباً كفائياً، بل على كل مسلم في ذاته، ولكن وجدنا سياق الحديث: (الوتر حق على كل مسلم، فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل، ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل) الخمس الثلاث الواحدة كلها وتر، فكيف يكون حقاً ويترك فعله إلى ما يحبه الإنسان؟! إن آخر الحديث يرد الكيفية إلى فعل ما يحبه الإنسان، وهنا شبه نافذة لمبادئ الخلاف، فكلمة: (حق على كل مسلم) ، من تمسك بها قال: الوتر حق واجب، وقد جاء في بعض الأحاديث أن رجلاً جاء إلى عمر وقال: إن في الشام رجلاً يقال له: أبو محمد، يقول: إن الوتر واجب، فقال: كذب أبو محمد، الوتر ليس بواجب، وسيأتي النص عن علي رضي الله تعالى عنه: ليس بواجب كالصلاة أو كالفريضة، ولكن سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فأول الحديث يقول: (الوتر حق) وفي آخر الحديث: (من أحب أن يوتر بخمس بثلاث بواحدة فليفعل) ، فلما أُسند الأمر إلى ما يحبه الإنسان تخلخل رابط الحق والوجوب، وأصبح واجباً مخلخلاً؛ لأن فيه اختياراً الإنسان، ولو كان واجباً حتماً لما ترك الاختيار للإنسان في كيفية الأداء.

ولكن كمنهج علمي: الذين يقولون بأنه حق قالوا: نحن لم ننازع في الكيفية، فليوتر على أي صفة شاء، وعليه أن يوتر بما يشاء، فذلك متروك له.

إذاً: مجال الخلاف قائم، ماذا فعل المؤلف إزاء ذلك؟ وقبل أن ننتقل للأثر بعده لنرى الحكمة والفقه في إيراد النصوص في الباب الواحد، وأنها لم تكن عفوية، ولكنها مقصودة لبيان الحكم من سياق اللفظ أو من خلال المعنى بين السطور.

في قوله صلى الله عليه وسلم: (من شاء أن يوتر بخمس فليفعل) ، كيف يصلي الخمس؟ ليس عندنا صلاة خمس ركعات أبداً، أكثر صلاة عندنا أربع، وهنا نزل إلى واحدة، فكيف يصلي الخمس؟ وكيف يصلي الثلاث؟ سيأتي تفصيل ذلك عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وعن غيره.

وقد جاءت الروايات في الوتر بعدد زيادة عن الخمس: بسبع أو بتسع، وجاء بالفعل من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عند البخاري رحمه الله لما بات عند خالته ميمونة قال: فبات النبي صلى الله عليه وسلم وأهله بطول الوسادة، ونمت في عرضها، الوسادة طويلة، فنام النبي صلى الله عليه وسلم على طولها، ونام هو في عرضها الذي هو سمكها، أي: نام ابن عباس على طرف الوسادة.

قال: حتى إذا كان منتصف الليل -وفي بعض الروايات-: ثلث الليل، قام النبي صلى الله عليه وسلم إلى شن فتوضأ، ثم أخذ ثوباً، ثم قام يصلي، ففعلت كما فعل، أي: قام يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذ يفتل شحمة أذنه، قالوا: في هذا تنبيه للصبي حتى لا ينام، وتشجيع له على عمله، ومؤانسة له.

والرواية الأخرى يقول فيها: قمت عن يساره، فمد يده من وراء ظهره وأخذ برأسي وأدارني إلى يمينه، فهنا بينوا موقف المأموم المنفرد من الإمام إن كان واحداً، فيكون عن يمينه لا من ورائه ولا عن يساره.

وبالمناسبة وخاصة ونحن بالمدينة المنورة، ونشاهد الصلاة في المسجد النبوي أثناء الموسم، فنحتاج إلى هذه الصورة، فـ ابن عباس قام للصلاة عن يسار النبي صلى الله عليه وسلم، ظناً منه أن الأيمن أفضل، فترك الأيمن لرسول الله ولم يقف متيامناً على رسول الله، فوقف في اليسار على أن الأيمن أفضل، ولكن السنة أن يكون الإمام بمثابة السترة للمأموم، فأخذ ابن عباس من يساره بعد أن كبر في الصلاة، وأداره إلى يمينه، وهنا مالك رحمه الله قال: تصح الصلاة أمام الإمام عند الضرورة، نحن نشاهد المصلين هنا أثناء الموسم يتقدمون الإمام، ونجد البعض أو الكثير يعترض على ذلك ونقول: مصيب من وجه، وغير مصيب من وجه آخر.

واستدلال مالك رحمه الله بهذه الصورة قال: إن الجهات بالنسبة إلى الإمام أربعاً: أمام وخلف ويمين ويسار، فوجدنا الخلف هو موقف المأمومين إن كانوا عدداً، واليمين موقف المأموم إن كان فرداً، إذاً: لا موقف في أمام ولا يسار، لكن ابن عباس لما قام ووقف عن يساره وليس بموقف، كبر ودخل في الصلاة، ولم يرفض النبي صلى الله عليه وسلم ما وقع من صلاة ابن عباس في اليسار وهو في غير موقفه، ولكن صححه وأخذه وجعله في الموقف الصحيح وهو الأيمن، فيقول مالك: الجزء الذي وقع من ابن عباس في غير موقفه اعتد به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعذره لعذر الجهالة؛ لأن المكان متسع وابن عباس لم يعرف ذلك، فصحت صلاته وهو قائم في اليسار، لأنه أوقع جزءاً من الصلاة في جهة اليسار، ثم أكملها في الموقف الصحيح، فإذا جاء إنسان ووقف أمام الإمام وهو في غير موقف نظرنا: إن كان لعذر لضيق المكان وعدم التمكن صحت الصلاة وصح الاقتداء، وإذا كان يوجد مكان ولكنه قصر وترك محل الوقوف عن اليمين أو الخلف وجاء أمام الإمام فلا حق له في ذلك.