فضل القراءة والكتابة وبيان لماذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أمياً
قال: (إلا ووصيته مكتوبة عنده) فلو قيل: إن رسول الله صلى الله عليك وسلم قد قال: (نحن أمة أمية لا نقرأ ولا نكتب) فمن أين جاءت الكتابة الآن؟ وهل في قوله: (إلا ووصيته مكتوبة) تقرير للكتابة أو إهمال لها؟ الجواب: فيه تقرير لها.
إذاً: ما كان لا يقرأ ولا يكتب عجزاً ولا كراهية، ولا نقصاً في العلم والتعليم، فقد افتتحت رسالته العظمى بقوله سبحانه: {اقْرَأْ} [العلق:١] ، سبحان الله! وقد جاءت الوصية بالكتابة في آية الدين: فيملي الذي أخذ، وإذا كان عاجزاً يملي عنه وليه مع وجود شاهدين وكاتب.
فإقرار الكتابة عند رسول الله أقوى من عند أي شخص آخر.
إذاً: هو يكرم ويقدر القراءة والكتابة، وكذلك الشعر، قال تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس:٦٩] فلماذا منعه من الشعر، وقد كان النابهون عند العرب الشعراء؟ علماء الأدب يذهبون في هذا مذاهب عديدة وقد سبق أن كتبت رسالة في الأدب في الصدر الإسلامي، وكانت مقررة في الجامعة.
وإنما منع الله رسوله من الشعر تكريماً له، كما قال سبحانه: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس:٦٩] أي: ليس هو من أهلة، ولماذا؟ قال سبحانه: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} [يس:٦٩] ، فهذا هو شغله، وهذه هي ميزته، فهو لا يتميز على الرجال بالشعر والنبوغ فيه وإنما بالنبوة: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} [يس:٦٩] ، ولو جئنا وقلنا: وما الذي يمنع من أن يكون شاعراً، وعنده ذكر وقرآن؟ قلنا: يمنع من هذا أن العرب في الجاهلية عند أن دعاهم إلى الإسلام قالوا عنه: شاعر، وكاهن، ومجنون.
فإذا كانوا قد اتهموه بالشعر وهو لم يقل شعراً ولم يعرف به فكيف لو اشتهر قبل الرسالة بالشعر؟! فلو كان شاعراً وجاء بمثل قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق:١] ، فسيقولون عنه: هذا شعر من ضمن الشعر الذي كان يقوله، ولكن ليس بشاعر.
وكذلك لما قالوا: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل:١٠٣] ، قال الله رداً عليهم: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل:١٠٣] أي: فليس بينهما صلة.
إذاً: في عدم تعليمه صلى الله عليه وسلم القراءة والكتابة معجزة؛ لأنه أصبح معلماً للناس القراءة والكتابة، وأول قضايا العناية بالتعليم هي تعليم الصبية الصغار بعد غزوة بدر، فقد كان من لم يجد فداءً لنفسه من المشركين وهو يعرف القراءة والكتابة، يفادي نفسه بتعليم عشرة من صبية الأنصار القراءة والكتابة، فكان الذين يفادون بالتعليم مثل الذين يفادون بأربعمائة أوقية، أو بخمسمائة، أو بألف، أو بأكثر، أو بأقل.
إذاً: (إلا ووصيته مكتوبة) : الكتابة لها اعتبار في الشرع، في المعاملات وفي تحقيق المناط في الكتابة من حيث معرفة الخط، ولهذا يقول العلماء: هذا مبدأ من مبادئ علم الحديث وهو الرواية بالوجادة؛ لأنهم يقولون: إذا كان هناك طالب علم يقرأ على شيخ، ومات الشيخ ووجد في كتبه ما لم يسمعه منه، فيجوز له أن يقول عن فلان بالوجادة؛ لأنه وجد بخطه أحاديث بأسانيدها مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فكأنه أخذها بالسماع إلا أن السماع أعلى رتبةً؛ لأنه مواجهة ومشافهة، فإذا وجدت الوصية بخط الموصي ولو لم يكن عليها إشهاد فخطه شاهد عليها، ويعمل بها.
واستدلوا أيضاً: بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث بكتبه إلى الملوك ولم يشهد عليها، وبمجرد ما يصل الرسول برسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى من أرسل بها إليه يصدقها، فإن كان متأدباً وأراد الله له الخير عظم هذه الرسالة واحترمها وتأدب في الجواب عليها، كما فعل المقوقس مع حاطب فإنه لما رأى الرسالة أكبرها وحفظها وتآنس معه، حتى روي أنه قال: ألستم تقولون: إن محمداً حبيب الله، ورسوله، وأنه يدافع عنه ويحبه؟! قال: بلى، قال: فلمَ تركه لأهل مكة يخرجونه ليلاً، ويختفي في الغار -هذه كما يقولون: حجج قوية-؟ فقال له: وأنت أيها الملك! ألا تؤمن بأن عيسى رسول الله؟ قال: بلى.
قال: ألا تؤمن في اعتقادك أنه ابن الله؟ قال: بلى، قال: فلمَ تركه أبوه لليهود يصلبونه؟! فقال: حكيم جاء من عند حكيم، ولهذا العامة يقولون: إذا أرسلت فأرسل حكيماً ولا توصه.
يقولون في حكاية عن بعض أصحاب الملك ابن عبد العزيز: أنه أرسله إلى جهة وقال له: قبل أن تذهب غداً ائتني، فلما جاء قدم له رسالة فقرأها إلى آخرها ثم قال: ما هذا؟ قال: أن تعمل بما فيها، فقطعها ورماها أمامه!! فقال له: ما هذا؟! قال: الحاضر يرى مالا يرى الغائب، فأنت هنا قاعد في محلك لا ترى ما يكون هناك، وأنا هناك أشاهد ما يطرأ من الأمور وأنظر أشياء مستجدة أنت لا تدري عنها، فلن أتقيد بكتابتك، ولكن سأعمل بما أرى، وهكذا.
فقالوا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث الرسائل إلى الملوك ولم يوقع عليها أحد من الصحابة.