وهناك قواعد عديدة في نظام المعاوضة؛ لأن الإنسان لا يخرج درهماً من جيبه إلا من عوض يأخذ به سلعة، أو يستأجر به عاملاً، يشتري منفعة أو طاقة، والمتصدق يخرج من ماله ولا ينتظر شيئاً، وليس ذلك ضياعاً للصدقة؛ لأنها بدون عوض، بل عوضها عظيم ومضمون، وهو ما للمتصدق عند الله من أجر؛ ولهذا تجد المؤمن الموقن بالوعد -أي: وعد الله- يتصدق ويزكي بطيب نفس؛ لأنه موقن بأنه سيجد عوض ذلك يوم لا ينفع مال ولا بنون.
وعلى هذا كانت الصدقة برهاناً على صدق الإيمان كما جاء في الحديث:(الطهور شطر الإيمان، وسبحان الله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن -أو تملأ- ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء) والبرهان: الدليل، وهو في أصل اللغة: الدائرة البيضاء التي تكون حول قرص الشمس بعد المطر -وليس قوس قزح المعروف- تظهر بينة، والبرهان: الدليل والحجة الذي يقيمه الإنسان على دعواه التي يناكر فيها.
فالصدقة برهان على صدق المتصدق؛ لأنه يوقن بأن عوضها عند الله؛ ولهذا كان المؤمنون يتصدقون بطيب أموالهم، أما المنافقون فكانوا يعمدون إلى ما لا يقبلونه ولا يرتضونه إلا أن يغمضوا فيه.
إذاً: الزكاة عنصر حيوي في الإسلام، وتنظيمها وبيان مصرفها لله سبحانه، كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:(أن شاباً جلداً قوياً وقف على رسول الله وسأله الصدقة، فقال: يا ابن أخي! إن الله لم يدع قسم المال لأحد، لا لنبي مرسل ولا لملك مقرب، وتولى قسمتها بنفسه {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ}[التوبة:٦٠] إلى آخره، فإن كنت من أهلها أعطيتك.
فذهب الرجل، ثم جاء آخر وقال: ليس عندي شيء.
قال: ماذا عندك؟ قال: أنا وعجوز في البيت، عندنا حلس نفترش نصفه ونلتحف بنصفه، وقعب نشرب ونأكل فيه.
قال: علي بهما.
فباعهما صلى الله عليه وسلم بدرهمين، وقال: اذهب فاشتر بأحدهما طعاماً لأهلك، واشتر بالآخر فأساً وحبلاً وائتني بهما، ثم وضع عوداً في الفأس وقال: انطلق فاحتطب وبع، ولا أرينك خمسة عشر يوماً.
فذهب واحتطب وباع، ثم وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثياب نظيفة، وحرك ثوبه فإذا الدراهم في جيبه تتحدث، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: لأن يأخذ أحدكم حبلاً وفأساً فيحتطب فيبيع، فيستغني؛ خير من أن يذهب يتكفف الناس أعطوه أو منعوه، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خيراً وأجزل من الصبر) .
وهكذا -أيها الإخوة- المال في الإسلام له حيز كبير، سواء كان في الزكاة أو في صدقة التطوع، أو في الغنائم، أو في الأنفال، أو في الميراث أو غير ذلك، وهنا يعقد المؤلف رحمه الله كتاب الزكاة، أي: أحكامها وما جاء فيها من حكمها، وأموالها، ومن أنصبتها، والجهات التي تصرف فيها.