[تفريق الشرع بين المتساويات لحكمة]
وتقدم لنا في باب إزالة النجاسة استثناء بعض الأبوال للآدميين، وهو حديث أبي السمح: (يغسل من بول الجارية، ويرش من بول الغلام) فليس معنى (يرش من بول الغلام) ألا يتعرض الإنسان إليه أو أن يتركه، ولكن من العلماء من قال: بول الغلام كبول الجارية نجس، ولكن في تطهيره تخفيف على بول الجارية، ولكن بعض المتأخرين كـ المتولي من الشافعية ذكر علة في ذلك وقال: إن طبيعة بول الجارية أشد كثافة من بول الغلام؛ لأن عنصر الأنوثة زائد في بول الجارية، يؤثر عليه أكثر من عنصر الذكورة في بول الغلام، فيكتفى في بول الغلام برشه فيزيل نجاسته؛ لأنها أخف من نجاسة بول الجارية، فيغسل من بول الجارية ويرش من بول الغلام.
وقال بعض الناس: إنكم تفرقون بين متساويين، وهذا لا يجوز.
فقيل لهم: الشرع هو الذي فرق وليس هذا من عندنا، فإذا كان الأمر كذلك ورجعنا إلى الأصل فإنهما ليسا متساويين، بل هناك فرق بينهما، وقد وجدنا تفريق الإسلام بين المتساويين فعلاً في غير هذا الموطن، كما في الحديث: (أحلت لنا ميتتان ودمان ... ) فذكر الكبد والطحال وهو دم، ولكنه دم حلال، وغيره دم نجس حرام.
إذاً إذا جاء الشرع بتفريق بين متساويين في نظرنا أو في علمنا فنأخذ بما جاء عن الحكيم العليم سبحانه، أو عنه صلى الله عليه وسلم فهو لا ينطق عن الهوى، وألغينا ما نتصوره نحن من أن ذلك لا يجوز عقلاً؛ لأن الشرع لا يخضع للعقل في الحكمة أو في حقائق الأمور، والله تعالى أعلم.
قوله: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، بلى! إنه لكبير) يذكر العلماء في هذا النص أنه جاء منه السلب والإيجاب في مكان واحد، فنفى أن يكون تعذيبهما من كبير، ثم أثبت أنه كبير كيف يكون ذلك؟ فقالوا: كبير وليس كبير مع اختلاف الجهة، وانفكاك الجهة ينفي التعارض، كما قالوا: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة وصلى فيها) وجاءت رواية: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة ولم يصل فيها) فهذان حديثان متغايران إثباتاً ونفياً، فإذا اختلف الزمان أو المكان فهنا ينتفي التعارض، فقالوا: نعم، دخل عام الفتح ولم يصل، ودخل في حجة الوداع فصلى، فالذي ذكر عدم الصلاة مع الدخول أراد وقتاً معيناً، والذي قال: دخل وصلى.
أراد وقتاً آخر، فلا مانع من أن يدخل في وقت من الأوقات ولم يصل، ويدخل في وقت آخر ويصلي، ولا يكون هناك تعارض في الأخبار.
وهنا قوله: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير) فقوله: (بلى إنه كبير) أي: بالنسبة لحكمه عند الله، وقوله: (وما يعذبان في كبير) أي: بالنسبة للإنسان من حيث إمكان التحرز منه؛ لأن الاستتار والاستنزاه والتحفظ من البول هذا ليس بكبير على الإنسان، بل إنه ميسر له، وفي إمكانه أن يستتر ويستبرئ، وليس في ذلك كبير مشقة عليه.
إذاً: (وما يعذبان في كبير) أي: لا يشق على المكلف أن يفعله.
(بلى إنه لكبير) أي: كبير عند الله {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:١٥] ، فالمعنى: ليس بكبير بالنسبة للمكلف، وإنه لكبير عند الله، إذاً ليس هناك تعارض بين إثبات أنه كبير وبين نفي أن يكون كبيراً؛ لأن نفي أن يكون كبيراً بالنسبة للإنسان؛ من حيث أنه يمكنه أن يتحفظ منه دون مشقة عليه، ولكنه من جهة أخرى عند الله كبير؛ لأن الله طيب ولا يقبل إلا ما كان طيباً، وإن الله جميل يحب الجمال، والصلاة من شرطها الأساسي الطهارة فهو يقف بين يدي الله، وهي عماد الدين، ويترتب عليها صحة الصلاة؛ إذاً: يكون أمره كبيراً.
قوله: (والآخر كان يمشي بالنميمة بين الناس) النميمة: من نم ينم، والنماء الزيادة، والنمام -عافانا الله وإياكم- يسمع الكلمة وينمها -أي: يزيدها- وينقلها إلى الآخرين، وهذا من أخطر ما يكون من أدواء المجتمعات وأمراضها، وكم يوقع من الفتن! ولهذا عظم الله أمر النميمة، والرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أنها من أسباب عذاب القبر؛ لما يترتب عليها من المفاسد وقطيعة الأرحام، ومن إفساد ما بين الأخوين أو الزوجين أو الولد وأبيه.
وهناك أشخاص -عافانا الله وإياكم- لا يطيب لهم الحديث إلا أن ينموا بين الناس، ويقول بعض العلماء: النميمة من الكبائر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رتب عليها العذاب.