شرح حديث النهي عن بيع التمر بالتمر متفاضلاً
قال رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً على خيبر فجاءه بتمر جنيب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكل تمر خيبر هكذا؟ فقال: لا.
والله يا رسول الله! إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تفعلوا، بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيباً، وقال في الميزان مثل ذلك) متفق عليه، ولـ مسلم: (وكذلك الميزان) ] .
نعلم جميعاً أن خيبر فتحت عنوة، وأنها أصبحت للمسلمين، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أبقى اليهود فيها يعملونها على جزء من الثمرة، وأصبحت معاملة عند المسلمين تسمى المخابرة، وهي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر في بلدهم، وكان صلى الله عليه وسلم يرسل إليهم ابن رواحة يخرص عليهم التمر، فيلتزمون بحصة المسلمين، ويأخذون حصتهم، فالعامل بمعنى الأمير، بمعنى الوكيل، بمعنى النائب، عامل رسول الله في خيبر، يعني: نائبه في إدارتها، والحكم فيها، وما يتعلق بشئونهم دنيوياً ودينياً.
إذاً: كان صلى الله عليه وسلم قد نظّم أمور الدولة، وأقام العمّال، ونظم الجباية، ورتب الإدارات، كما قيل: التراتيب الإدارية في الدولة المسلمة الفتية، هذا العامل سواء كان أميراً أو قاضياً أو حاكماً أو غير ذلك جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر جيد، فلما نظر إليه صلى الله عليه وسلم قال: (أكُلّ تمر خيبر هكذا؟) ، وهذا مما ينبه عليه العلماء: أن ولي الأمر يجب أن يتفقد الولاة والعمال، كيف جاء العامل بهذا التمر؟ هل كل تمر خيبر هكذا أو أنه تصرف؟ فتبين أن العامل قد تصرف، فقال: لا والله! يا رسول الله! ما كل تمر خيبر هكذا، إنا لنشتري الصاع من هذا الجيد بالصاعين من دونه، أو الصاعين بالثلاثة، يعني: متفاضلاً، إذاً: نشتري الجنس بجنسه كيلاً مطعوماً مقتاتاً مدخراً مع التفاضل.
فماذا قال صلى الله عليه وسلم؟ (لا تفعل) ، لا تفعل ماذا؟ أن تشتري الجنس الواحد بجنسه متفاضلاً، هل تبغى تشتري جنساً بجنسه؟ يجب أن يكون متساوياً، وأما الجودة والرداءة فحلها آخر، وليس في الإسلام طريق مسدود أبداً، عندك السوق، بع الرديء بنقد، فيحصل في يدك النقد ثمناً للرديء، وانقطعت العلاقة بالرديء، وأصبح في يدك نقد ثمنه، فتذهب إلى السوق وتشتري جيداً بالنقد، وأصبحت الصفقة الثانية بين الجيد والنقد، ولا علاقة للصفقة الثانية بالرديء الأول، وإن كان النقد ثمناً لها؛ لأن ببيع الرديء بالدراهم انقطعت علاقة الرديء، ونستأنف علاقة جديدة بالدراهم التي بأيدينا.
إذاً: هذا خروجٌ من مأزق فوارق الجودة والرداءة.
وقوله: (وقال في الميزان مثل ذلك) ؛ يعني: لأن التمر مكيل، فكأنه قال: كل مكيل بيع بجنسه متفاضلاً لا يجوز، ماذا أفعل؟ بع بالتساوي، وإن كان فرق في الجودة والرداءة فبع بالنقد واشتر بالنقد، وكذلك افعل في كل ميزان، وليس المراد بكلمة ميزان هنا: الآلة التي نزن بها؛ لأنها آلة مصنّعة لا ربا فيها، ولكن المراد: وكذلك الموزون بالميزان.
تكلمنا على حديث التمر الجنيب إجمالاً، وهناك مباحث في هذا الحديث فيما يتعلق بالأحكام الفقهية في تلك الصفقة، وهذا الحديث يبين بصفة عامة أن الجنس بجنسه لا بد أن يكون متماثلاً متساوياً ويداً بيد، فهذا الذي استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: لا يجوز شراء التمر الجنيب صاعاً بصاعين من الجمع، والجمع يقال: إنه مجموع أصناف مجهولة الاسم، وغالباً ما تكون تلك الأصناف مجهولة الاسم قليلة الجودة عن المعروف المتعين باسمه، وكما نشاهد الآن في المدينة الشيء الفاخر الجيد معروف اسمه، يقول لك: صفاوي، شلبي، سكري، ومثله تمر الإخلاص المعروف في الإحساء، فالتمور الجيدة محافظة على اسمها ومعينة عند الناس، لكن التمور التي غير متميزة قد يكون لها اسم ولكن لا يحفظ.
فكونه اشترى صاعاً جنيباً جيداً بصاعين أو صاعين بثلاثة، لا يجوز، والرسول صلى الله عليه وسلم عاب ذلك وقال: (لا تفعل) لا تفعل في هذه الصفقة، أو لا تفعل في المستقبل، (ولكن بع الجمع بدراهم، واشتر بالدراهم جنيباً) .
إذاً: هذا منهج للتعامل بين الرديء والجيد، وإذا كنا لا نقبل أن نتبادل جيداً برديء مثلاً بمثل؛ لأنه غير معقول، عندي تمر من أجود ما يكون، وتعطيني تمراً أردأ ما يكون، وتقول: مثلاً بمثل، أعطني صاعاً بصاع! أنا غير معطيك، فكيف نفعل؟ صاحب التمر الرديء يريد أن يأكل تمراً جيداً، فليعمل بهذا المنهج، وهو أن تدخل القيمة وسيطاً بين الرديء والجيد، بع الجمع بدراهم، وبعد أن أخذت الدراهم ثمناً للجمع اشتر بالدراهم جنيباً جيداً، ويكون هناك انفكاك بين الصفقة الأولى في الجمع، وبين الصفقة الثانية في الجنيب.